وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
السبت، 17 نوفمبر 2012

التعصب في العصر الحاضر


التعصب في العصر الحاضر
بقلم : د.نافذ الشاعر


لو جئنا لتحليل أسباب التعصب في العصر الحديث، لوجدنا أن من أكبر الأشياء التي تساهم في خلقه هو الحسد.. حيث نجد أن المعدم يحسد الثري، والأمة ذات الموارد المحدودة تحسد الأمة الغنية، والأغبياء يحسدون الأذكياء، والنساء يحسدن الرجال على نفوذهم في المجتمع وسلطانهم في السياسة والحكم...
والسؤال هنا لماذا شاع الحسد في العصر الحديث؟
إن مرجع ذلك إلى تقدم التكنولوجيا وازدياد أوجه النشاط الإنساني كالقراءة والكتابة والصحافة والكتب والمجلات والانترنت والإذاعة والتلفزيون.. وهذه الوسائل هي التي أتاحت للإنسان في العصر الحديث أن يتعرف على أحوال الملايين من البشر الذين تفصلهم عنه البحار والمحيطات.. وبالتالي فقد أصبح الفقير يرى رأي العين كيف يعيش الثري في بذخ وبحبوحة وعيش رغيد، في حين أنه يعاني الفاقة والعوز والذل والهوان..
وبهذا اتسع نطاق الحسد حتى شمل العالم كله بعد أن كان محصورا في حيز محدود؛ لأن نطاق الحسد قديما لم يكن يتعدى دائرة الجيران، وتفكير الإنسان في ذلك الوقت لم يكن يتعدى تلك الدوائر المحدودة من حوله..

ولا يتبادر إلى الذهن أن مرجع هذا التأثير إلى الدعاية فحسب؛ فالدعاية لا تخلق الشعور بالحسد أو بالكراهية والبغض، ولكنها تستغله وتوجهه. فلو لم توجد عاطفة الحسد والكراهية لما استطاعت الدعاية مهما بلغت أن يكون لها ثمة تأثير يذكر..
فالإنسان في العصر الحديث بداخله شحنة ضخمة وطاقة هائلة من التذمر والسخط وعدم الرضا عن حياته، لأنه يشعر بالنقص والحرمان والعوز وأنه أقل مما عليه الآخرون، وخذ مثلا حديقة القرود عندما تزورها وتشاهد القرود عقب موجة الفرح والتهليل التي قامت بها أمام الزائرين.. إنك لو راقبت عيونها بعد أن تفرغ من موجة الفرح تلك، لشاهدت فيها معالم الكآبة والحزن وكأنها تستشعر بالحسرة والألم لتخلفها في سنة التطور حيث قدر للإنسان أن يسبقها بكثير..
وكذلك الإنسان في العصر الحديث لا يخلو من شيء من هذا القبيل، فهو يشعر في دخيلة نفسه بمستواه الضحل بالنسبة للإنسانية، ويجد الفارق كبيرا بينه وبين الواقع، فتراه حائرا لا يدري كيف يصل إلى ذلك المستوى الذي يتطلع إليه، وعندئذ يتملكه غيظ وكبت لهذا العجز فيندفع في تيار السخط على أخوته في البشرية متناسيا أنه وهم في الحيرة والشقاء سواء.

وخذ مثلا هنا بما نراه على شبكات الانترنت من المواقع التي تدعو إلى مذاهب متطرفة تصب جام غضبها على كل المذاهب الأخرى، فإنك لو دخلت مواقعهم وغرف دردشتهم لو جدتهم يتفوهون بألفاظ وعبارات غاية في البذاءة والحقد ضد من يخالفونهم في العقيدة..
وإننا لو بحثنا عن هؤلاء الذين يتفوهون بتلك البذاءات لوجدتهم من الفئات المطحونة البائسة التي لا تكاد تملك قوت يومها، ولا تكاد تصل إلى المستوى العالي التي تراه فيمن حولها، فينشأ في داخلها ثورة من الحقد والحسد على وضعها المزري، فهم عدوانيين في مشاعرهم نحو الناس بقدر مشاعرهم نحو حياتهم من الفشل والنجاح. ولكنهم لا تستطيعون توجيه مشاعرهم الغاضبة نحو رموزهم المقدسة التي تعيش في الأبهة والنعيم والعيش الرغيد؛ لأن تلك الرموز المقدسة أوقعت في نفوسهم أنهم مظاهر الله في الأرض، وان نقدهم شيء مقيت يجر غضب الله وسخطه.. وبالتالي قام هؤلاء المسيطرون على دفة الحكم، والمالكون لخيرات البلاد بتوجيه حسد هؤلاء الفقراء والرعاع والمعدومين إلى كراهية المخالفين في العقيدة، وخلقوا لهم عداوات وثارات وأحقاد وهمية..
ومن الملاحظ أن الرموز الدينية لا تنزل إلى مستوى العامة في السخط والشتم، وان ألسنتهم لا تنطق بأمثال هذا الكلام البذيء لأنهم راضون عن أنفسهم وأحوالهم وما يتملكوه من جاه وثراء..

وهناك سبب آخر للتعصب وهو سبب مهم أيضا، وهو لوم الذات، والثورة على النفس.. لأن الشخص المتدين الذي لا يستطيع أن يلتزم بتعاليم كتابه، يشعر في دخيلة نفسه أنه مقصر عن بلوغ الكمال، فتتكون لديه عقدة ذنب من أثر تأنيب ضمير، يتحول مع المدى إلى ثورة على النفس، فيقوم بالتنفيس عنها بمهاجمة الأديان الأخرى المنافسة لديانته، ظنا منه أن ذلك يُرضي الله، وظنا منه أن ذلك يسد النقص الذي وقع منه تجاه دينه وعقيدته..
وهذا الشتم والسب لا يُرضي الله، وهو مخالف لتعاليم السماء، ومن يفعله ليس على شيء من الصدق والحق والإخلاص.. إنما الذي يُرضي الله من عباده أن يطبقوا تعاليم دينهم ووصايا أنبيائهم، لا أن يشتموا الآخرين ويهاجموهم ويسخروا منهم، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ، وَالإِنجِيلَ، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ..) المائدة68

فما أيسر أن يلوم الشخص الآخرين، فيشعره هذا اللوم بأنه حقق شيئا ما بديلا عن الفهم، ولكن ذلك البديل ليس له في الحقيقة وجود، لأن اللوم لا يعدو أن يكون نقلا للعبء الباهظ من كتف إلى كتف، ظانا بذلك أنه حقق شيئا ما، وهو إجراء فارغ.. لأن لوم الآخرين ومهاجمتهم تزييف للحل وتحاش لمواجهة الواقع بصرامة وصراحة.






0 التعليقات:

إرسال تعليق