وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

الوصية الخالدة


الوصية الخالدة
بقلم : فتيحة سبع

عندما تحتدم ذكريات سنين الألم على النفوس المكبّلة بالعناء، تنطق الأقلام أحرفا، عشقها وصية أُم مخضبة بعطر الشهداء.

الزمن يمضي مُحتدما، بين طياته تورق الحياة رمادا.. تمتد الأشجان بلا انتهاء، تسربل ستائرها الحالكة على كيانك، تدلهم الآفاق التي كانت تبرق شموسا أريجية دافئة على كتاباتك، تشعر بالهُنيهات تتصرم جاثمة على صدرك.. تضغط بحدتها على أوتار أحاسيسك، تخنق ما تبقى من حلم رابض بين ثنايا أعماقك.. يتخثر الحبر في اليراع و الدم في شرايينك.. تتلاشى طاقتك و لا تقوى على البوح.. تقضي ردحا من الوقت في غياهب الشرود، تُبعثر أفكارك أمواج اليأس و الإكتئاب..يهجرك رحيق الإبداع و يبقى قلمك يرزح تحت معاول التشتت و الإضطراب، و أنت على غير عادتك لا رغبة تُنبت حبورها في أغوار نفسك لامتطاء يخت التأملات
و الغوص في بحيرة دفء الكلمات، لا رغبة لك في مداعبة القلم و تصوير ما يجود به الحلم و شاشة الذاكرة تعرض أمامك صورة المأساة التي ثكّلت النساء و يتّمت الأطفال، خلقت الرعب في النفوس الهادئة و أضرمت النيران في القلوب المطمئنة.. صورة تلك السيدة التي أخرسها وقع الصدمات المتعاقبة و هي ترمق أشلاء ضحايا أبنائها نثارا على الأرصفة و الطرقات و النيران تلتهم خيراتها التي إنتعشت بمعاول الجهود و فيض الطاقات، لعلها الفاجعة التي تشغل اهتمامك هذه الأيام، تسيطر على فكرك و تشل خطوات يراعك.. ترسل بصرك إلى أكوام الأوراق المكدسة على مكتبك .. تشدك الرسالة الموضوعة جانبا التي وصلتك منذ أيام، تتذكر الجملة الوحيدة التي كُتبت عليها بالمداد الأحمر، فتمتلئ سماء ذاتك قتامة .. تبحر في دوامة غضب.. تتصارع بداخلك الشهامة
و الخوف، الوفاء و الخيانة، الكلمة والصمت، الحرية و القيود.. جميعكم أبناء هذه السيدة، لم تتوان في الإحتراق من أجلكم و بث إشعاع الحماس في دواخلكم و روح النضال في نفوسكم..مبرقة حِكمها في كل مكان، خالدة صورها في لوحات كل فنان.. كانت تتلهف بشوق كبير للإصغاء إلى ترانيم موسيقى أشعارك، فتحت أبواب قلبها لكل الأنامل و اليراعات المتعشبة في جنائنها، تحتضن سيل حبورهم بحُنو، تزرعها أزهارا يتهاداها الأحباب عبر المكان و على امتدادية الزمان ، فكانت أحرفكم تتدفق كالسيل العارم بحرا من الكلمات المفعمة بوهج الحب و النقاء..
تنتصب أمام مخيلتك صورتها الموشومة في ذاكرتك لوحة عتيقة.. تتذكر في آسى حديثها إليكم ذات يوم كانت تجمعكم في بيتها عندما شعرت
بالمخاطر تحوم حولها غربانا تنعق في سمائها، تُبدد أشعة شمس الأمن التي كانت تبسط الدفء على محيط أمانيها و بحر أحلامها: " تعلمون أنني مسكونة بأصداء مليون و نصف مليون شهيد، عطّروني بطهارة الدماء لأتنسم وهج الحرية و أنعم بالهناء، فأجدني اليوم يا أبنائي بحاجة إلى أفكار تدفع عني أذى الأشرار و أقلام تحميني من ضُرام النار و طاقات تضفي على كياني بريق الأنوار.."
يعتريك شعور كئيب راح يتمطّى بداخلك في تمهل، يتحول إلى أمواج تتصارع بين مد و جزر أفكارك.. يهيج بحر خواطرك، تبحث عن أحد تحدثه، فلا تجد إلاّ غربة تحتضنك.. قيود الوجل كبّلت النفوس فأطرقت أقلام رفقائك عن الهديل و أخلدت إلى الصمت الرهيب، لا تسمع إلاّ الصدى الذي ترده أعماقهم لكلمات كبتوها و عزم قيّدوه .. تتوغل في أعماق اليأس.. تغوص في متاهات العزلة.. تحاول الصراخ لكن صراخك يختنق بداخلك .. تبدأ في تساؤل هامس مع نفسك: " كيف أجدني عاجزا عن إشهار قلمي لمواساة أُم هي أسطورة الحكي المرسومة بأعماقنا، أوصتنا بالإسهام في إزاحة الأشواك عن طريقها و الحفاظ على ملامح صور ذكرياتها ؟ كيف أمحي ما تراكم عنها من معاناة و أرسم في أفقها مباهج الحياة ؟ " تصمت لهنيهات و الحيرة تنهشك ذئابا مفترسة و ذاكرتك حبلى بوصية أُم يشل أعصابها تعب الأيام الجريحة، تنتظر من خلف سحائب الألم بصيص أمل يُعيد لها نطقها .. تتحدث في غضب مع أوراقك القاحلة: " اللعنة هذا القلم الذي ركن إلى الصمت في وقت يحتاج إلى أن ينطق الصمت أمام زمجرة الرياح و هزات البراكين و انتشار الأشباح ".. الخوف لم يكن رفيق الشهداء، الخيانة لم تظهر في قاموس النبلاء، القيود لم تطوِّق عزائم الأوفياء.. تتأجج الذكريات نارا لاهبة بأعماقك ،تقف مشدوها ، تسمع صدى وصية الأم يتردد في ذاتك .. يناديك .. يستحثك إلى التحدي في سبيل شفائها.. تنظر إلى الرسالة، تمسكها بيديك، تردد ما بداخلها: " لا نريد سماع صوت قلمك بعد اليوم"..ترميها أرضا، تدوسها برجليك .. لا،،لا،، لن يخيفني الذبح و السفح، الموت واحد و لو ولّوا جميعا، لن أتراجع، لن أطرق عن البوح ثم تتساءل في صوت ثائر: لِم لا أكون ذلك البطل(1) الذي سافر نحو مدن العواصف مفجرا زمن الإنهزام، فأسافر في مملكة الحرف أفجر كلماتي وفاءا سرمديا..؟
يند الجواب عن أعماقك المُطوّقة بالهموم صارخا: نعم أيتها الرائعة.. يا من تسكن أفئدة الأوفياء، لا شيء يثنيني عن مواساتك، لاشيئ يستحيل علي فعله لأجل أُم عظيمة أنجبت عظماء، ماتو لعزتك شهداء.. بالأمس تطاول صوت الفنان علي معاشي على الأعداء محلقا في السماء ليستشهد ثملا بقصة " بلادي الجزائر" (2) و أعقبت حديثك كلمات أخذت تتدفق من بحر وجدانك سيلا مثخنا بروائح الحب و الوفاء:
لأجلك لا تثنيني الأحزان،
لا تردني العواصف
ولا لهيب النيران
يا أُما تمتد في القلوب أغنية حب
تغدق بالحنان..
لحبك أسافر في أعماق الوجع..
أُضمد جراحاتك ..
أركب سفينة المخاطر..
أُلملم شتات أحلامك
يا أُما تورق في دمي و صيتها
وردا و ريحانا..
الكلمات بدأت تشع الدروب الحالكة أمامك أنوارا دافئة.. تشعر بنفسك تتحرر من قيود الشجن .. تُناجي قلمك، تحضنه بشوق، تطلق له عنان تحبير أحاسيسك روائع شعرية.. تطرحها بعد أيام بإحدى المجلات الوطنية، فتتحرك الأقلام الراكدة في بِرك الصمت معلنة عودتها إلى حدائق الإبداع، تُنزل التحدي على البياض .. تلتقي أفكاركم، تتعانق أحرفكم ب:" مهرجان الأدب في رحاب الوئام" أُقيم على شرف عودة الأقلام بعد غياب أعلن حضوره لأعوام، راحت تعالج القلوب الممزقة و النفوس الحزينة و تعيد للأُم الأُنس و اللطمأنينة و تستمر في رحلتك مع الحرف محترقا بنار الوصية المتأججة في أعماقك.


فرندة في أكتوبر 2000
عن المجموعة القصصية "وئام العائدة"

هوامش:
(1)أحلام أزمنة الدم للقاص الجزائري جمال فوغالي.
(2)بلادي الجزائر: أغنية للمرحوم الفنان الشهيد علي معاشي، أول فنان جزائري يستشهد على أيدي الإستعمار الفرنسي بمنطقة تيارت.


















0 التعليقات:

إرسال تعليق