وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
السبت، 9 فبراير 2013

ملفّ المنظومة التربويّة - 2



كتب بواسطة: محمد الحاج سالم
http://www.lebonpeuple.com/images/images_articles/lllll.jpgملفّ المنظومة التربويّة (*)
- 2 -
جمع المادّة وراجعها وعدّلها وأعدّها للنشر: مصطفى القلعي

كنّا، مع بعض الأصدقاء الصادقين المتحمّسين للفعل الجادّ والمفيد في صفحة "نقد الثورة التونسيّة" على فايسبوك، قد أثرنا جدلا حول قضيّة المنظومة التربويّة في تونس: إصلاح أم تثوير؟ وقد تمخّض هذا الجدل عن اقتراح مشروع منظومة اقترحناه على الصديق الدكتور محمد الحاج سالم فتحمّس له وبادر بنشره مشكورا على موقعه "موقع الشعب الكريم". وقد أثارت الورقة تفاعل الأصدقاء والصديقات وناقشوها وأبدوا آراءهم فيها. وقد رأيت من باب تعميم الفائدة أن أجمع هذه النقاشات وأن أنمذجها وأصنّفها إلى محاور وأنشرها. والغاية من ذلك، إلى جانب ما ذكرت، توثيق هذه الآراء لوجاهتها، ثمّ هو وجه من وجوه شكر أهلها، ونحن لا نملك لشكرهم ما يكافئ فعلهم السّمح المفيد. وقد اكتملت أمامي مادّة من النقاش تسنّى لي تصنيفها إلى محورين هما: التعليم العموميّ والخاصّ/ وتعريب التعليم. وقد رأيت أنّه من باب الأمانة أن تسند الآراء إلى أصحابها. كما حرصت على أن أقدّمها في شكل حواريّ كما وردت في الأصل مع بعض التعديل. فإليكم مادّة النقاش.

1.   التعليم العموميّ والخاصّ:
عبد الودود العمراني:
تحيّة طيّبة للجميع. لطالما أرقتني مسألة خوصصة (أو خصخصة، لنجزم ونرتاح) التعليم، وهو توجّه سائد في المجتمعات الأنكلوسكسونيّة ولاسيما في التعليم العالي وانتشر كالنّار في الهشيم في العهد البائد. وبما أنّه يسيل لعاب المستثمرين فقد كانت ليلى بن علي أولى المهتمّات به. ويعلم الرّأي العام خصومتها مع مؤسّسة بوعبدلّي للتعليم الخاصّ ومشروع مدرستها الخاصّة في قرطاج.
ليكن واضحا منذ البداية أنّني أعتقد أنّ التعليم الخاص لا يخدم الوطن والمواطنين كمجموعة كاملة وإن كانت له مزايا في مخرجات البحوث المتقدّمة. وبما أنّ السلبيّات تفوق الإيجابيّات فأنا شخصيّا أعارض أيّ توجّه حكوميّ رسميّ لتشجيع التعليم الخاصّ على حساب التعليم العمومي الذي يظلّ أهمّ مرفق على الإطلاق لتقدّم البلاد والعباد... إنّ التعليم الخاصّ من وجهة نظري لا يعدو كونه واجهة لوجهة نظرة كاملة للمجتمع تنظر إليه على أنّه غنيمة يتقاسمها أصحاب المال والسلطة..
وقبل الانطلاق في تحليل هذه الظاهرة والتوجّه من قِبل كلّ مهتمّ بالمسألة سواء وافق عليها أو تصدى لها، فيمكن أن نستخدم ما يطلق عليه: دراسة حالة للاستئناس بالموضوع، وهي الدروس الخصوصيّة. لدينا ثلاثة عناصر: التعليم والمال والفاعلون (سلبيّون: طلبة/ إيجابيّون: مدرّسون). دون الإسراع في الحكم على الدروس الخصوصيّة، يمكن أن نجزم بلا مفاجأة أنّها حكر على من يمتلك المال لدفع مقابل هذه الدروس من ناحية، ونجزم من ناحية أخرى أنّها تعود بالنفع الماديّ على المدرّسين. لكن المصيبة الأولى هي حرمان شقّ عريض من الطلبة منها لعجزهم عن الدفع. والمصيبة الثانية هي تقزيم حجم/ تقليل جودة التعليم الذي يتحصّل عليه الجميع أثناء الدروس الاعتياديّة... فإذا كان هذا حال الدروس الخصوصيّة فحسب، فما بالك بتعميم هذه المنظومة لتصبح الأصل ويتأسّس التعليم الخاصّ في كل مناطق البلاد وفي كلّ الشعب التعليميّة؟؟
وبما أنّ هناك من سيتولّى مشكورا ترتيب المداخلات والرؤى، فإنّي أسمح لنفسي بالمرور إلى محور آخر يتصل بالمقارنة: تعليم خاص/عام. لدينا في البلدان العربية بعض التجارب التي يتعيّن علينا دراستها عن كثب ولاسيما التجربة الأردنيّة التي أصبح فيها التعليم الخاص منتجا اقتصاديّا تبيعه الأردن في السوق العربيّة عموما، ويستحقّ وقفة دراسيّة.
ولدينا تجربة أخرى تستحقّ الدراسة كذلك لأنّها ما زالت طازجة وبصدد التفعيل ونشاهد ردود أفعال المجتمع تجاهها، وأعني تجربة المدارس المستقلّة في قطر التي أسّسها معهد راند الأمريكيّ في إطار بيع خبرات للدولة القطريّة. والمقصود بالمدارس المستقلّة مرافق تعليميّة تضبط كلّ واحدة منها برامجها التعليميّة بكلّ حريّة مع الاستئناس بخطوط عريضة يضبطها المجلس الأعلى للتعليم. والواضح أنّ هناك امتعاضا كبيرا منها لدى القطريّين ومجموعة من الانتقادات يمكن التوقّف عندها.
وأخيرًا لدينا تجربة المدرسة التونسيّة بالدوحة التي سعت بعض الأطراف (النّهمة) إلى محاولة تحويلها إلى مؤسّسة خاصة يديرها مجلس إدارة. ولكنّ مشروعهم لم ينجح والحمد لله بفعل تصدّي أولياء التلاميذ له والوقوف بحزم في وجه تحويل التعليم إلى تجارة تملأ جيوب البعض... هذه خطوط لتوسعة النقاش كي لا تكون رؤيتنا مغلقة على المجتمع التونسي فحسب.
وإذا ما وسّعنا أكثر دراسة الظاهرة، فيجب كذلك أن نتوقّف لدى بعض المؤسّسات الخاصة المرموقة في العالم على غرار جامعة يال أو هرفارد في أمريكا وبعض المؤسّسات الحكوميّة أو شبه الحكوميّة المرموقة كذلك على غرار "سرن" أو المنظمة الأوروبيّة للأبحاث النوويّة التي ينبغي أن نذكّر أنّ علماءها ابتدعوا الشبكة العنكبوتيّة العالميّة world wide web التي نستخدمها جميعا للتواصل والتعلّم والتعليم.
حاتم رجيبة:
لقد قام المحافظون والليبراليون (في ألمانيا) في المقاطعات التي يحكمونها بحذف مجانيّة التعليم الجامعيّ بينما حافظت عليها المقاطعات المسيّرة من قبل اليسار والخضر على مجّانيّته (التعليم شأن المقاطعات في جانب كبير منه). وقد أثبتت الدراسات في الغرض أنّ المعاليم الجامعيّة لم تؤثّر قطّ في مردود الطلبة (لم يحثّهم دفع المال إلى تقديم إنتاج أفضل) بالإضافة إلى عزوف الكثيرين عن الدراسة الجامعيّة لعدم قدرتهم الماليّة .
التعليم الخاص كارثة على الفقراء وأفراد الطبقة الوسطى!! فهو لا يخدم إلاّ مصالح الطبقات الثريّة. تعليم مجانيّ لكن بجودة عالية يقتضي نظاماً جبائيّا تصاعديّا ترتفع فيه قيمة الضريبة بارتفاع دخل الفرد، وحتى يتسنّى للدولة توفير تعليم مجانيّ جيّد للمعوزين فيتحرّرون من الفقر عندما يمتهنون وظائف رفيعة. فالتعليم الجيّد المجانيّ هو الكفيل برفع حجم الطبقة الوسطى ومحو الأميّة. هذان العنصران أساسيّان لترسيخ الديمقراطيّة الليبراليّة الحديثة وبالضرورة إنتاج مجتمع مزدهر على النمط الغربيّ.

2.   مسألة تعريب التعليم:
مصطفى القلعي:
تحيّة إلى كلّ الإخوة والأصدقاء المشاركين في هذا النقاش الدّائر حول المسألة التعليميّة والمتحمّسين له. وأرجو من الجميع إبداء الرّأي في مسألة "تعريب العلوم" إذ يبدو أنّها مسألة خلافيّة. نريد تعميق النقاش فيها. مع فائق تحيّاتي
زينب التوجاني:
تعريب العلوم غير واقعي لأنّ الطالب حين ينتقل إلى الدراسة في الخارج عليه أن يبدأ التعلّم من الصفر، التعريب مشروع تصنيعيّ واقتصاديّ وإرادة سياسيّة قبل أن يكون منهجا تربويّا أو مسألة تتعلّق بتعزيز الهويّة العربيّة. تعريب العلوم على شاكلة المشرق سيضحي سببا من أسباب تراجعنا، ليس لأنّ اللغة لا تسع التقدّم العلميّ ولكن لأنّ العرب لا يملكون أيّ مشروع علميّ ولا حضاري، وقدرنا الراهن أن نساهم في إثراء مشاريع الآخرين إلى أن نخرج من كهفنا المظلم.
التعريب عندنا سيفشل لأنّنا أقرب إلى التجربة الجزائريّة، وأسباب الفشل واضحة: تبعيّتنا لفرنسا وعدم قدرتنا على تصوّر المشروع البديل. التعريب أكبر من نقل علم من لغة إلى لغة. التعريب عقليّة وثورة فكريّة قبل كلّ شيء، اللغة تحمل روح الحضارة وحضارتنا تحتضر، مات فيها العقل والإبداع، لن يصلح أن ينقل إليها أيّ علم الآن، فأيّ علم ينتقل إليها سيموت لأنّها لغة أموات. إسرائيل أحييت لغة ماتت لأنّ شعبها شعب حيّ، العرب ميّتون. ولذلك لغتهم ليست الآن لغة علم. أعتذر عن أقوالي التي لم أستطع تنميقها.
حاتم رجيبة:
تعريب المواد العلميّة: هل هو ضرورة؟ ماهي الأهداف من تدريس العلوم بلغة أجنبيّة وليس باللغة الأمّ ( العربيّة عندنا)؟
حسب موسوعة ويكيبيديا (بالألمانيّة) ودراسات علمية ألمانيّة وسويسريّة في هذا الغرض فإنّ الهدف الرئيسيّ من التعليم المزدوج أي تدريس موادّ بلغة أجنبيّة هو:
-    أن يحذق المتعلّمون اللغة الأجنبيّة. فهذا سيؤهّلهم للتواصل الثقافيّ والعلميّ مع الحضارات المقابلة (في حال تونس فرنسا بالأساس) أو الحضارات الأخرى ( في حال التدريس باللغة الإنجليزيّة).
-    أثبتت الدراسات وجود آثار جانبيّة حسنة كارتفاع القدرات الابتكاريّة للمتعلّمين وارتفاع المرونة وسرعة التكيّف وتوسّع الآفاق وإزالة العوائق اللغويّة بين طلاب الثقافتين.
إذن، الهدف الرئيسيّ ليس تحصيلا أحسن للعلوم المنشودة وأنجع، كما جاء في تدخّلات الإخوة بل هو بالأساس حذق اللّغة الأجنبيّة. إذا كان هذا هو الهدف فإنّ تدريس العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة بلغة أجنبيّة (وخاصة بالإنجليزيّة) ضروريّ ولا يحتوي إلاّ على محاسن. أمّا إذا كان الهدف هو الإلمام الأفضل بالموادّ المدرّسة ( العلوم الطبيعيّة والرياضيّات في تونس) فإنّ التعليم المزدوج مضرّ بالمتعلّمين ولا يخدم هذه الغاية بتاتا.
الواضح ، حسب رأيي، هو أنّ تدريس الموادّ العلميّة بالفرنسيّة مسلّط من فرنسا لأنّ ذلك لا يخدم إلاّ مصالحها الاقتصاديّة. ذلك أنّ النخب ستضطرّ للتواصل المكثّف معها. وهذا سيضمن لها احتكار السوق التونسيّة مثلاً. هذه لعبة مشروعة لفرنسا ربّما، فهي تسعى إلى المحافظة على مصالحها، ولكنّها لعبة قذرة من قبل السياسيّين التونسيّين وخاصّة الزعيم بورقيبة الذي انطلت عليه الحيلة. كما تسرّبت هذه السذاجة إن لم أقل البلاهة إلى جلّ النخب الحاليّة !! أمّا إذا كان الهدف فعلاً تحسين التواصل مع الحضارات والثقافات الأخرى فإنّ تدريس العلوم (التجريبيّة كما الإنسانيّة) باللغة الإنجليزيّة يصبح قراراً صائبا.
لا بد أن أشير إلى نقاط النقد التالية:
-    من الثابت (نتائج دراسات علميّة) أنّ نتائج التلاميذ ذوي المستوى المتوسّط والضعيف في حال تلقّيهم للموادّ العلميّة بلغة أجنبيّة ستتدهور. فلا يستطيع هؤلاء التلاميذ مجاراة الدرس إلاّ من كان يحذق تلك اللغة الأجنبيّة جيّداً. هذا سيؤدّي، كما حصل في تونس، إلى إقصاء الأغلبيّة من حذق الموادّ المدرّسة باللغة الأجنبيّة وإلى إنتاج مجتمع نخبويّ .
-    تراجع حذق اللغة الأمّ لصالح اللغة الأجنبيّة: هذا ما نلاحظه فعلاً عند النخب التونسيّة. فالكثير لا يحذقون لغتهم الأمّ رغم مستواهم التعليمي العالي.
-    المدرّسون يميلون إلى التدريس العموديّ ذلك أنّه في جلّ الحالات المدرّس هو الوحيد الذي يتقن جيّداً اللغة الأجنبيّة. فلا مكان للتعليم الأفقيّ الأكثر نجاعة. فيستحيل مثلاً العمل الجماعي والتقييم المتبادل لأنّ المتعلّمين سيتحدّثون باللغة الأمّ أو يحجمون عن الكلام بغيرها.
-    ميل المتعلّمين إلى السلبيّة وإحجامهم عن التعبير والمشاركة في الدرس لعدم قدرتهم على الإفصاح الدقيق والمعمّق عن أفكارهم. هذا يولّد أيضاً شعوراً بالحماقة وعدم الرضا عن الذات. وكل هذه المشاعر هي عوائق كارثيّة أمام التعلّم وفهم المادّة.
-    عدم قدرة المدرّس على التعمّق في المادّة المدرّسة (باللغة الأجنبيّة) لعدم قدرة المتعلّمين على استيعاب الوصف الدقيق والمعمّق. هو يلتجئ إلى لغة سهلة وسطحيّة غير قادرة على الإيفاء بشروط التدريس الجيّد.
إنّ تحسين جودة المنظومة التربويّة كما جودة التدريس والرّفع من مكانة اللغة العربيّة ضمن المنظومة التعليميّة كما في المجتمع ووسائل الإعلام بالإضافة إلى إزالة الأميّة وتحسين طرق التواصل في المجتمع سيفضي حتماً إلى تلاشي اللغة الدارجة وظهور  لغة عربيّة تخاطبيّة قريبة جدّا إلى الفصحى. هذا تحصيل حاصل إن وقع ما أشرت إليه. فالدّارجة ترتبط مباشرة بمدى تقوقع المجموعة وبالمستوى (أ) التعليميّ لأفرادها. فكلّما ارتفع المستوى التعليميّ زاد الاحتكاك مع الآخر. وكلّما ازدهر الاقتصاد ارتفع فخر الفرد بمجتمعه ولغته إضافة إلى ارتفاع قدراته التعبيريّة بسبب ارتفاع مستواه العلمي. هذا سيؤدّي حتماً إلى ميله الطبيعيّ آنذاك إلى التخاطب بعربيّة جيّدة قريبة جدّا إلى الفصحى. أقول هذا بكلّ ثبات لأنّي أعيش في مجتمع ضعفت فيه الدارجة إلى حدّ بعيد وصار التخاطب باللغة الفصحى عاديّا ومألوفاً( ألمانيا).
الطلبة السوريّون لا يبدؤون هنا في ألمانيا من الصفر في دراساتهم الجامعيّة رغم أنّ التعريب عندهم متقدّم. أنا درست الرياضيّات والفيزياء في المرحلة الثانويّة في تونس في مدرسة ترشيح المعلّمين بالعربيّة. وكلّ الموادّ كانت باللغة العربيّة (لم يجد مشكلاً آنذاك إلاّ الأساتذة لأنّهم لا يحذقون اللغة الأمّ = لغتهم تصوّر !!) فلم أبدأ هنا من الصفر بل احتجت إلى ترجمة المصطلحات الخاصة فقط مثل جيب يقابله sinus ... بل بالعكس فهمت المواد العلميّة باللغة الأمّ أحسن بكثير !!
لا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى التجربة الجزائريّة الفاشلة في التعريب خلافا للتجربة السوريّة. فخرّيجو الجامعات المعرّبة يلاقون صعوبات في الانتداب بالمقارنة مع خرّيجي الجامعات المفرنسة، وقد طالعت ذلك في كتاب حلّل أسباب الحرب الأهليّة الجزائرية. لا أعرف أسباب الفشل ولكنّي أساند رأي الأخ عبد الودود العمراني في وجوب مرحلة انتقاليّة وسداسي أو حصص لغة أجنبيّة تقنيّة للتواصل مع الزملاء عالميا أو مع الزملاء في نفس المؤسّسة .
فنجاح التعريب رهين نجاح الترجمة ووجود اقتصاد قويّ ومنظومة تربويّة ناجعة. كما أنّ الاقتصاد المزدهر مرتبط بمنظومة تربويّة متطوّرة تكون هي بدورها رهينة التدريس باللغة الأمّ. إذن، الكلّ متداخل ومتشابك. لكنّ الاقتصاد الهزيل لا يشرّع أبداً لرفض التعريب وإنّما للتفكير في إجراءات موازية تكفل نجاح التجارب التعريبيّة اتّعاضا بالتجربة الجزائريّة.
عبد الودود العمراني:
بالعودة إلى المحور المقترح من الصديق المحترم مصطفى القلعي وهو التعريب فوجهة نظري هي التالية: أرحّب بكلّ الأفكار، ومع ذلك أستنكر حتى مجرّد التفكير في التصدّي للتعريب جملة وتفصيلا. أبدأ بسرد حادثة معروفة لسفير كوريّ جنوبيّ طرح عليه أحد الديبلوماسيّين منذ أكثر من عقد، السؤال التالي: هل تدرّسون العلوم بالكوريّة في بلدكم؟ غضب السفير أيّما غضب واعتبر السّؤال في حدّ ذاته إهانة وسوء أدب، وصرخ رادًّا: بالطبع ندرس العلوم بلغتنا الأمّ، وهل تتصوّرنا ندرّسها بلغة أجنبيّة؟
كما أكرّر ما أورده سي حاتم رجيبة حول الطلبة السوريين وأضيف: هناك امتحان شديد الوعورة في أمريكا لمن يرغب في مواصلة تعليمه في المجال الطبيّ التخصّصيّ في الولايات المتّحدة، وهو امتحان باللغة الإنكليزيّة مدجّج بالمصطلحات الطبيّة. وتذكر الإحصائيّات أنّ أفضل نتائج في هذا الامتحان هي نتائج الطلبة السوريّين (والسوريّات طبعا) الذين درسوا الطبّ حتى ذلك الحين بالعربيّة... ويشير ذلك بطريقة علميّة لا تقبل الجدال أنّ حصولك على المعارف الأساسيّة بلغتك الأمّ ييسّر لك التخصّص لاحقا في معارف أخرى بلغة أجنبيّة. ويكفي لذلك برنامج بستة شهور يمكن أن نطلق عليه: الجسر الأكاديميّ. أرجو من كلّ قلبي (وأنا أخوكم الذي يحذق خمس لغات، ولا فخر) أن نطلّق نهائيّا الرؤية الدونيّة للغتنا وأن نفكّر جديّا في أنّ الأجيال القادمة لن ترفع رأسها ولن ندخل نحن معشر العرب المحفل العالميّ للعلوم والمعارف والآداب والفنون إلاّ من باب... العربيّة لغتنا الأمّ التي تتّسع للكون وما وراءه.
أعتقد أنّ لتونس مقوّمات إنجاح مشروعها التعريبيّ أوّلا لأنّنا موهوبون لغويّا، وقد تطول أسباب شرح هذه الظاهرة، وثانيا لأنّ تجربتنا ستختلف عن تجربة إخواننا الجزائريّين الذين فشلت تجربتهم لأنّهم اعتمدوا أكثر من اللزوم على المدرّسين المصريّين الأزهريّين...
محمد المنّاعي:
التعريب أو عدمه له أبعاد ثقافيّة. لكن هو مرتبط أيضا بالنجاعة العلميّة لأنّ اللغة ليست هدفا في حدّ ذاتها بقدر رمزيّتها وما يمكن أن تضيفه. معضلة التعريب غير المدروس هو غياب المراجع العلميّة الجامعيّة في العلوم ممّا يجعل كلّ تعريب في المراحل الأولى دون مراعاة التعليم العالي هو تهميش للمحتوى على حساب الشكل ...التعريب ينطلق بالتوازي بين دعم مكانة اللغة العربيّة في المراحل الأولى وتشجيع البحوث الجامعيّة باللغة العربيّة في العلوم وبعث مراكز مختصّة في الترجمة لتكوين رصيد معجميّ علميّ باللغة العربيّة وإصلاح المنظومة التربويّة بحيث يصبح الانتقال من لغة إلى أخرى سلسا دون العودة إلى الصفر.
كريم فارح:
تعريب العلوم سيكون كارثة بأتمّ معنى الكلمة. ألمانيا أو فرنسا أو أمريكا أو اليابان وكلّ الدول المتقدّمة تدرّس العلوم بلغاتها الأمّ لأنّها دول ساهمت وتساهم في "صناعة" العلوم وتطويرها. أمّا نحن فشعوب استهلاكيّة حتى في مجال العلم والتطور التكنولوجيّ..أذكر أنّني في الولايات المتّحدة وفي إطار بحث علميّ يتعلّق بالمراصد الفلكيّة اضطرّ أحد الزملاء الأمريكيّين لتعلّم الألمانيّة حتى يطّلع على تجربة الباحثين الألمان رغم أنّ بحثهم متوفّر باللغة الإنجليزيّة..وهو اليوم يعمل في أضخم مرصد فضائيّ في العالم، بل وساهم في تطويره مع نفس العلماء الألمان (يقع هذا المرصد في الشيلي)..الخلاصة هي أنّنا لن نتقدّم بالتعريب بل سنتأخّر أكثر لأنّنا لن نستطيع التواصل مع الشعوب المتقدّمة علميّا..
عبد الودود العمراني:
هو رأي لكنّه لا يستقيم أمام التحليل لأنّ البلدان الآسيويّة ومنها اليابان ولاسيما كوريا الجنوبيّة كانت تغطّ في الجهل منذ أربعين أو خمسين سنة. ولم تسهم كوريا أبدا تاريخيّا في "صناعة" العلوم. ثم انطلقت في ترجمة العلوم ومصطلحاتها إلى لغتها الأمّ، وانظروا النتائج اليوم: أل جي، سامسونج، صناعة السيّارات والبرمجيّات والبحوث المتقدّمة. أمّا المصطلحات، فاسمحوا لي بوصفي خبيرا أن أقول إنّ هذه لعبة أطفال وقد عرّبنا ما يفوق 90٪ منها، وانظر على سبيل المثال في المجال الطبيّ: المعجم الطبيّ الموحّد الذي عرّب جميع المصطلحات في جميع التخصّصات الطبيّة، ولا بأس بالتذكير بالإسهامات الجليلة للمترجمين التونسيين فيه.
كريم فارح:
النتائج التي تراها اليوم سي عبد الودود هي مساهمة في صناعة العلم. ولا يمكن أن نقارن بين العلوم اليوم وبين العلوم في الستينيّات والسبعينيّات وحتى التسعينيّات ..العلوم اليوم تتقدّم بسرعات ضوئيّة. و لن يمكننا مجاراتها بالتعريب ..هل نستطيع مثلا أن نصدر كل ستّة أشهر معجما للمصطلحات العلميّة الجديدة؟؟ ليس ذلك فقط بل يجب أن نعمّم ذلك المعجم على طلبتنا.. قطعا ذلك مستحيل.. في اليابان و كوريا يدرّسون العلوم بلغتهم الأمّ قبل هذا التطوّر الرهيب في مجال التكنولوجيّات و بذلك استطاعوا الالتحاق بركب "التقدّم" بل و ساهموا فيه ..
عبد الودود العمراني:
سي كريم العزيز، إجابتي بسيطة ومباشرة عن سؤالك حول معاجم المصطلحات العلميّة، لدينا برمجيّات وخبرات هائلة في مجال الترجمة. ويمكن لنا إصدار معجم للمصطلحات العلميّة مرّة في الشهر دون أدنى صعوبة. فالمترجمون الاحترافيّون يعملون ببرمجيّة نطلق عليها: "ذاكرة الترجمة  Translation Memory, TM  تسمح بإنتاج مسرد آليّ كلّما قمت بترجمة نصّ من لغة إلى أخرى... وهي برمجيّات بسيطة تكفي ورشة تدوم أسبوعا واحدا لتعلّمها واستخدامها... وهكذا ترى أنّ وجود الكنولوجيّات اليوم محفّز ومعين وميسّر لتعريب العلوم مقارنة بما كانت عليه الحال أيّام الثورة العلميّة اليابانيّة والكورية. لا أرى مشكلة البتّة، المشكلة في القرار السياسيّ وفي العمل على إقناع المجتمع بهذه الضرورة الحتميّة، وهذا يتطلّب بدوره برنامجا توعويّا وموائد مستديرة وخبراء يؤمنون بالمشروع ويعملون عليه وله...
محمد دعلول:
أجد في الخوض في موضوع "التعريب" فرصة للتَّنفيس عن أمر ما انفكَّ يؤرّقني من سنين... نحن أيّها السَّادة الكرام لسنا في حاجة إلى "التَّعريب" بل الأمر أخطر من ذلك بكثير... نحن في حاجة إلى "لغة حيَّة" واضحة المعالم والقواعد نفكّر بها ونطالع بها ونبدع بها ونتواصل بها... وهذه اللغة لا يمكن أن تكون "الدَّارجة" لأنّها قاصرة وتفتقر إلى معجم وقواعد. وهي لا تعدو أن تكون سوى تراكم على مدى أجيال لتحريفات غير معقلنة لعب فيها - و مازال يلعب- الجهل و التَّقاعس الفكريّ ووضعيَّة المرأة دورا كبيرا... وهذه اللغة لا يمكن أن تكون لغة أجنبيَّة لأنَّه لا يمكننا أن نبدع بلغة مستعارة ...هذه اللغة لا يمكن أن تكون إلاّ اللغة العربيَّة لغة القرآن الكريم التي جعلت منَّا أمَّة ذات دين وحضارة... وليس من المعقول والأمر كذلك أن تدرَّس اللغة العربيَّة كلغة أجنبيَّة بداية من سنّ متأخّرة وأن تضيع 6 سنين من عمر كلّ طفل من أطفالنا يقضّيها في تعلّم الدَّارجة فتتحوَّل صفحته البيضاء إلى مسودَّة يصعب كشطها وإعادة النقش عليها.. ثمَّ تصحبنا تلك اللهجة عديمة الفائدة طيلة حياتنا في حين أنّ جميع الشعوب تشبّ على لغاتها الحيَّة و تتعلَّم بها منذ نعومة الأظفار التفكير الصَّحيح وأدبيَّات الحوار و حب المطالعة و الاهتمام بالآداب والعلوم والفنون... قد يضحك البعض من كلامي هذا ويصنّفونه في باب المستحيل، ولكنّي أقول لهؤلاء إذا كنتم تستغربون أن نتحوَّل إلى استعمال العربيَّة الصحيحة في ظرف 30 سنة، فهل تستغربون أن نتحوَّل إلى استعمال الفرنسيَّة في أقلَّ من ذلك؟ وقد بدأت بوادر ذلك تلوح ناهيك وأنَّه في بعض الأحياء "الرَّاقية" هناك عائلات لا تتحدث في منازلها إلاّ بالفرنسيَّة والأمر كذلك في المخابز ومحالّ الحلويَّات والفضاءات التّجاريَّة فضلا عن الجذاذات الإشهاريَّة و القنوات الحرَّة واللهجات الدَّارجة سواء في تونس أو في غيرها مخترقة مهتزَّة لا تستطيع الصمود بأيّ حال أمام اللّغات الأجنبيَّة والتشبث بتلك اللهجات الآيلة إلى الاضمحلال سيؤدّي حتما إلى ذوبان مقوّمات هويّتنا... ولكن ومن حسن الحظّ فليس قدرنا أن نبقى "منغوليّين" عاجزين عن الإسهام في الحضارة.. فالتَّحوَّل إلى استعمال اللغة العربيَّة السليمة ليس بالأمر الصعب .. بل هو سهل ميسور.. ولدي حلول في منتهى السهولة تمكّننا من ذلك سوف أطرحها في مداخلة لاحقة..
عبد الودود العمراني:
المسألة التي أثارها سي محمد دعلول تهمّني وأراها مهمّة وجديرة بالدراسة. وقد التفتت جلّ الدراسات التي اهتمّت بالعاميّة والفصحى إلى آفاق ضيّقة. ومرة أخرى أرى أن نلجأ إلى المقارنات الثقافيّة التي نضجت منذ قرون وأشير بوجه خاص إلى اللاتينية واللغات التي انبثقت منها، وما يستحقّ الدرس بعمق ورويّة هي ظاهرة دانتي واستخدامه الكوميديا الإلهيّة لتأسيس الإيطاليّة الجديدة، التي كانت منبوذة في الأصل وتسمى lingua volgare كما ساعده في مهمته بوكاتشيو بتأليف الديكاميرون بالعامية ذاتها، ثم بتراركا في المجال الشعري، وهو ما يفسّر أن يطلق عليهم الإيطاليّون: التيجان الثلاثة le tre corone. أعلم تمام العلم أنّ توجهنا ليس كتوجه اللاتين لأنّ لدينا كتابا مقدّسا أوحى به الله من عليائه إلى رسوله الكريم بلسان عربي مبين. لكن دراسة الظاهرة اللاتينية تستحق بعض الجهد لأنّها تضيء لنا المنهجيّة التي بفضلها نجمت عن اللاتينية - لغة الفئات النبيلة والكنيسة - لغة الشعب الذي طوّعها لمآربه، فإذا به ينتصر فيموت الأصل ويبقى الفرع... الدراسة المقارنة هنا لديها فوائد وإن آلت آخر المطاف إلى نتائج غير التي وصل إليها اللاتين. نقطة أخرى أريد تقاسمها مع سي محمد دعلول تتصل بتجربة قناة الجزيرة للأطفال مع اللغة العربية (وللتونسيين بعض الفضل في تلك التجربة) فقد أشار لي صديق صحفيّ إلى أنّه رأى شيئا عجابا في برامج الجزيرة للأطفال: أطفال قطريّون وسوريّون وفلسطينيّون وتونسيّون إلخ... يلعبون ويمرحون وينفجرون ضاحكين أحيانا ... "بالعربيّة"  وبما أنّ الأطفال لا يعرفون النفاق، فيعني ذلك أنّ الفصحى أثرت فيهم وجعلتهم يقهقهون، ويمكن أن نبني على ذلك الكثير...
مصطفى القلعي:
وضعت، سي محمد دعلول وسي عبد الودود العمراني، إصبعيكما على موطن الدّاء. شكرا جزيلا لكما. أنا سأكتفي برواية قصّة واقعيّة حدثت منذ أربعة أو خمسة أشهر في تونس:
إحدى طالباتي الأجنبيّات في معهد بورقيبة للغات الحيّة، وهي إيطاليّة الجنسيّة، تتقن العربيّة الفصحى والإيطاليّة طبعا والإنجليزيّة والإسبانيّة. ولم تتعلّم الفرنسيّة ولا العربيّة العاميّة التونسيّة. كانت لهذه الطالبة بحوث كثيرة تجريها حول المسرحيّ التونسيّ الفاضل الجعايبي وحول الطعام التونسيّ كلّفتها بهما جامعتها. وباعتبارها طالبة جامعيّة فإنّ لها منحة تحصل عليها بفعل اتفاقيّات ثنائيّة مبرمة بين الجامعات ووزارات التعليم العالي.
لا أطيل عليكم، ذهبت الطالبة إلى وزارة التعليم العالي، انتبهوا جيّدا؛ وزارة التعليم العالي، وعرضت ما تريده الموظّف الذي استقبلها بالعربيّة الفصحى. فأجابها بالفرنسيّة. فقالت له: بالعربيّة الفصحى: عفوا، أنا لا أتكلّم الفرنسيّة. فقال لها: وأنا لا أتكلّم العربيّة الفصحى (وهو تونسيّ الجنسيّة وتعلّم في تونس ويعمل في إدارة عموميّة تونسيّة؟؟؟). وأضاف: عودي غدا مصحوبة بمن يتكلّم الفرنسيّة أو العاميّة التونسيّة. فعادت الطالبة مندهشة غير قادرة على الفهم والتحليل. وقال لي: أستاذ: موظّف تونسيّ في وزارة التعليم العالي لا يحسن التواصل بالعربيّة الفصحى. ولى يمكن أن تتصوّروا الحرج الذي لاقيته أمامها وأمام بقيّة الطلاّب. ولكم التعليق.
محمد دعلول:
في تونس، نحن بصدد استبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى بكلّ حماقة. وكذلك هو الشّأن في سائر الدّول العربيَّة الأخرى وخاصة في الخليج حيث لا يمكنك التخاطب إلاّ بالإنكليزيَّة.. وإنّي أرى أنَّ نقاء اللغة وإتقانها و تحسّن مستوى التَّعليم ورقيّ المجتمع ككلّ علميّا وثقافيّا إنّما هي خطوط متوازية ويجب أن تتمّ في آن واحد ..
كما لا يفوتني أن أذكّر الجميع بخطر ضعف مستوى مؤسّسات التعليم العام وتحوَّل الكثيرين في سباق محموم نحو المدارس التبشيريَّة حيث اللغة العربيَّة موؤودة والمناهج التعليميَّة تهيّئ نوابغنا للتصدير.
إلى الصَّديقة زينب التوجاني.. أن نبدأ متأخرين خير من أن لا نبدأ أبدا...أوروبّا في بدايات نهضتها بدأت بالنقل والترجمة عن العربيَّة للكتب العلميَّة الإغريقيَّة والإسلاميَّة... في الصين وكوريا واليابان وتركيا وإيران وحتَّى في البلدان الصَّغيرة كالدنمارك وإسرائيل والسويد و غيرها هناك نقل فوريّ لآخر المستجدَّات العلميَّة.. وحتَّى فرنسا نفسها قائمة في مواكبة العصر بجهد موصول في الأخذ بالعلوم والتكنولوجيا وبالترجمة في السينما والآثار الأدبيَّة مع إضفاء روح فرنسيَّة... تدفعها في ذلك إرادة محمومة للحفاظ على مكانتها الحضاريَّة وعلى الفرنسيَّة كلغة حيَّة.. وتوظّف لذلك طاقات بشريَّة وموارد مالية هائلة وديبلوماسيَّة نشيطة... ولو أنّ فرنسا تتقاعس يوما واحدا عن بذل ذلك الجهد يفوتها الرَّكب ذلك لأنّها لن تعود فاعلة كبيرة في الميادين الآنفة الذّكر كما هو مترسّب في لا شعورنا... تطوير اللغة وبذل الجهد في نقل العلوم إليها هي ضريبة ضروريَّة لا بدَّ منها لكلّ أمَّة تريد حجز مكان لها تحت الشَّمس وتريد أن تكون مساهمة في بناء الحضارة الإنسانيَّة لا مجرّد مستهلكة طفيليَّة لها..

*      هذه الورقة هي ثمرة نقاشات الأصدقاء والصديقات التي دارت على صفحة مجموعة نقد الثورة التونسيّة على فايسبوك  (https://www.facebook.com/groups/250438345063608/)  وعلى صفحة موقع الشعب الكريم. فلهم جميعا جزيل الشكر ووافر

0 التعليقات:

إرسال تعليق