وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الأربعاء، 15 فبراير 2012

1 ـ التجانس بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي:


1 ـ التجانس بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي:

تتحدد العلاقة الأولى بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي في علاقة الانسجام، أي أنهما يتطابقان ولا يتقاطعان. وسنختار أمثلة تؤكد هذه الفكرة من مختلف  بنيات القصيدة.
إن الأفعال الماضوية في بنية المدح تعكس التطابق بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي، هذا الأخير يتمثل في إحدى حروب سيف الدولة ضد الروم، وهذه الحرب سابقة على زمني النظم والإنشاد، لكنها تقفز إلى ذاكرة الشاعر ليوثقها في صورة الممدوح المنتصر في "الظفر  الحلو". وهكذا نحصل على المعادلة التالية:
الزمن التاريخي والاجتماعي
الزمن النحوي
الحرب
أفعال ماضوية

الماضوية ï   علاقة انسجام ð الماضوية
وإذا كانت الأفعال الماضوية تحيل في بنية المدح بصفة عامة على زمن تاريخي واجتماعي مُنْتَهٍ ينتمي إلى الماضي، فإن نفس الشيء يتكرر في بنيتي العتاب والفخر مع وجود بعض الفروق سنشير إليها في حينها.
في سياق تعرضه لإعراض الممدوح عنه وإنصاته لكلام الوشاة، يستعمل الشاعر الماضي الذي يحيل بدوره علىحدثٍ ماضٍ:
فما لجرح إذا أرضاكم ألم


إن كان سركم ما قال حاسدنا

إن المعارف في أهل النهى ذمم


وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة

فالماضي ينسجم مع الحدث الذي يحيل عليه الشاعر، إلا أن البيتين يحتملان أيضاً ولو بكيفية محدودة الدلالة على الحاضر والمستقبل، لأن الشاعر ما زال يعاني في حاضره من تصرف ممدوحه السلبي.
وإذا انتقلنا إلى بنية الذات نجد عدة أبيات تؤكد هذا الانسجام بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي، وقد سبقت الإشارة إلى بعض الأبيات التي تعكس هذا الانسجام، وسنكتفي بالبيت الموالي كنموذج:
وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ


أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

الشاعر يقصد إلى تأكيد حقيقة منتهية لا تناقش ولا مراء فيها، متمثلة في شهرته الأدبية المتميزة، والتي يشهد الواقع بتحققها.

ب ـ علاقة الانقطاع بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي:

ـ المضارع مادل على معنى في نفسه مقترن بزمان يحتمل الحال والاستقبال، هذا حده في كتب النحو، إلا أن المضارع في قصيدة المتنبي، قديدل على الماضي أيضاً، بالإضافة إلى دلالته على الحال والاستقبال، انطلاقاً من سياق القصيدة.
وسنكتفي ببعض النماذج التي تؤسس علاقة التقاطع بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي كما يجسده المضارع.
يقول الشاعر:
وتدعي حب سيف الدولة الأمم


مالي أكتم حباً قد برى جسدي

فليت أنا بقدر الحب نقتسم.


إن كان يجمعنا حب لغرته

فالمضارع في البيتين السابقين، لا يحيل على الحال أو الاستقبال فقط، ولكنه يحيل على إحساس نفسي تمتد مرارته في ماضي الشاعر على المستوى النفسي، وليس وليد لحظة النظم أو الإنشاد، إنه سابق عليهما، ويبدأ منذ أن تلقى الشاعر نبأ  التحامل عليه في مجلس سيف الدولة من طرف حساده وخصومه، والبيتان معاً يتضمنان قرائن تؤكد دلالة المضارع على الماضي. ففي البيت الأول يشير الشاعر إلى أنه يخفي حباً "قد برى جسده"، وبرى فعل ماضي، يدل على الأثر السلبي الذي خلفه كتمانه لحب سيف الدولة على مستوى بنيته النفسية، ولا يمكن للكتمان أن يدل على الحاضر، في حين أن ما تسبب فيه ينتمي إلى الماضي، هذا من الناحية المنطقية.
كما أن البيت الثاني يتضمن بدوره قرينة لفظية متمثلة في فعل "كان" المسبوق بأن، وهكذا نستنتج أن المضارع في البيتين يدل على الماضي أيضاً بالإضافة إلى دلالته على الحاضر والمستقبل.
يقول الشاعر في موضع آخر:
ويسهر الخلق جراها ويختصم


أنام ملئ جفوني عن شواردها



…………………………….
والسيف والرمح والقرطاس والقلم.


الخيل والليل والبيداء تعرفني

يوهم الشاعر القارئ، ـ المتلقي أن البيتين يحيلان على المضارع، في حين أنه يقصد الدلالة على الماضي كذلك، لأننا إذا أخذنا بحد النحويين للمضارع، فإن الدلالة ستفقد منطقها الخاص، فالشاعر لا يقصد أن ينام ملء جفونه عن شواردها في الحاضر أو المستقبل، بل في الماضي مع إمكانية استمرار الدلالة لتشملهما، وإذا رجعنا إلى القصيدة نجد أن البيت الأول مسبوق ببيت كل أفعاله ماضوية، ليس هذا فحسب بل يشترك معه في الدلالة، فهو استمرار للمعنى  الذي يتضمنه، هذا البيت:
وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ


أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

هذه إذن بعض الأبيات الشعرية التي تعكس علاقة الانقطاع بين الزمن النحوي والزمن التاريخي والاجتماعي.
وهناك أبيات في القصيدة يغيب فيها الزمن النحوي نهائياً وهي:
ومن بجسمي وحالي عنده سقم.


واحر قلباه ممن قلبه شبم

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.


ـ يا أعدل الناس إلا في معاملتي

أنا الثريا وذان الشيب والهرم.


ـ ما أبعد العيب والنقصان من شرفي

فالأبيات السابقة يلقيها الشاعر إلى ذهن المتلقي دون تحديد هويتها الزمنية، ليوهمه بزمنها المطلق الذي لابداية ولا نهاية له، إلا أن زمنها الحقيقي يبدأ بتوتر العلاقة بين الشاعر والممدوح، ولا نملك معطيات تاريخية وتوثيقية لضبطها بدقة.
إن التناقض الوجداني بلغ قمته الانفعالية، حتى أفقد الشاعر القدرة على تحديد زمن دلالة الأبيات. ليخرج من المحدد إلى اللانهائي، من الزمن إلى اللازمن، إنه يريد أن يمنح المعنى استمرارية في كل الأزمنة، وجوازاً غير قابل للتبديل.
ويمكن أن نصنف الأبيات السابقة انطلاقاً من الدلالة والإحساس والزمن كالتالي:
الزمن النحوي
الدلالة
الإحساس
غائب
العتاب/ الفخر ـ
التناقض الوجداني



ـ الإطلاق ـ
ـ الإطلاق ـ
الإطلاق

ـ الوظيفة الجمالية للزمن النحوي:

يؤدي تباين الأزمنة النحوية في النص إلى تحقيق وظيفة جمالية، تزيد أهميتها أو تضعف، حسب قيمة النص على المستوى الإبداعي، وحسب قدرة الشاعر على التحكم الإيجابي في تنويعها أو تجانسها، وسنقتصر على بعض الأبيات للبرهنة على الوظيفة الجمالية للأفعال، انطلاقاً من الجدول التصنيفي التالي الذي يرتكز على ثنائية الانقطاع/ الانسجام كإجراء منهجي.

تقاطع الزمنين
تجانس الماضي
تجانس المضارع
2-3-7-8-11-15-19-33-34-
4-5-6-9-10-14-16-18-20-22-24-27-28-36-38-
13-17-21-23-25-29-31-37-32-
ـ على المستوى الكمي نلاحظ كثرة الأفعال الماضوية المتجانسة على مستوى البيت، بغض النظر عن عدد الأفعال  التي تدخل في علاقة التجانس فقد تصل إلى ثلاثة وتتقلص إلى فعل واحد، ويكاد يتساوى تجانس المضارع مع تقاطع الزمنين.
ـ يمارس المضارع حضوراً متميزاً وكثافة واضحة في التقاطع بين الزمنين، بالمقارنة مع الماضي.
هذه إذن ملاحظات تقنية محضة، والآن ننتقل إلى الوظيفة الجمالية للأفعال سواء كانت ماضية أو مضارعة، ونبدأ بالأولى:

ـ تجانس الماضي:

يستعمل الشاعر  الماضي استعمالاً متعدد الأشكال، ومن أهمها استعماله له كعنصر في التعادل النحوي(([1])): grammatical le para llélume ، بمعنى أن الفعل الماضي في الشطر الأول يدخل في علاقة تركيبية مع مثيله في الشطر الثاني، عن طريق تعادلهما النحوي، والأبيات التالية تؤكد ذلك:
وقد نظرت إليه والسيوف دم.


ـ قد زرته وسيوف الهند مغمدة

وكان أحسن مافي الأحسن الشيم.


ـ فكان أحسن خلق الله كلهم

وأسمعت كلماتي من به صمم.


ـ أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

إن الوظيفة الجمالية للأفعال الماضوية في الأمثلة السابقة تتحدد في العناصر التالية:
ـ تحتل مواقع متشابهة في بنية البيت الشعري (فعل في بداية الصدر وآخر في بداية العجز)، والثاني يحيل المتلقي على الأول، بواسطة الترابط التعادلي بينهما.
ـ تدخل الأفعال الماضوية في التعادل النحوي الذي يميز البنية التركيبية والنحوية للأبيات السابقة، وهو أكثر وضوحاً في البيت الأول، وبذلك تحقق رتابة تركيبية ونحوية توقع رتابة جميلة تأسر المتلقي.
يمكن إذن أن نختزل الوظيفة الجمالية للأفعال الماضوية في عنصرين: طبيعة موقعها في بنية  البيت الشعري، ودورها في التعادل النحوي.
يوظف الشاعر تجانس الماضي في أبيات أخرى توظيفاً لا يخلو من جمالية، سنحاول البرهنة عليها انطلاقاً من البيتين التاليين:
حتى أتته يد فراسة ودم.


ـ وجاهل مده في جهله ضحكي

حتى تعجب مني القور والأكم


ـ صحبت في الفلوات الوحش منفرداً

يتشابه البيتان على مستوى البنية التركيبية والنحوية، والذي يهمنا هو الأفعال الماضوية التي تتشابه موقعاً وتركيباً.
مَدَّهُ ـ حتى أتته / صحبت ـ حتى تعجب.
فالماضي في الشطرين الأولين من البيتين، ينقل إلى المتلقي دلالة معينة توهمه باستمراريتها وديمومتها في الشطر الثاني، إلاّ أن الشاعر يستعمل الماضي المسبوق بحتى ليوقع دلالة جديدة تحقق وجودها على حساب دلالة الشطر الأول، وتحد من مدها الدلالي، وهذه الفكرة تبدو أكثر وضوحاً في البيت الأول:
حتى أتته يد فراسة ودم.


وجاهل مده في جهله ضحكي

ـ تجانس المضارع:

ـ يوظف الشاعر تجانس المضارع لتحقيق دلالات  معينة، لكن ما يهمنا هو البعد الجمالي، بالدرجة  الأولى، ولا داعي لتحديده في كل الأبيات تلافياً للتطويل:
يقول الشاعر:
ويسهر الخلق جراها ويختصم


أنام ملء جفوني عن شواردها

فجمالية المنظوم تتحدد في التقابل بين "أنام" و"يسهر" على مستوى الدلالة، كما تتحدد في كثافة حضوره في البيت: أنام، يسهر، يختصم، وهذا الحضور المكثف يضفي على البيت حركية دلالية، ونصادفه في بيت آخر:
ويكره الله ما تأتون والكَرّمُ


كم تطلبوب لنا عيباً فيعجزكم

فهناك تقابل دلالي بين "تطلبون" و"يعجزكم"،، بالإضافة إلى تواتر المضارع أربع مرات:تطلبون ـ يعجزكم ـ ويكره ـ تأتون، وهو موزع بالتساوي بين شطري البيت، والشاعر  في المثالين السابقين يحاول أن يحد من رتابة التكرار على مستوى الزمن النحوي بتحولات الدلالة.
إذا انتقلنا إلى التقاطع بين الأزمنة النحوية، والذي يحضر في أبيات سبق تحديدها بواسطة الأرقام التي تحيل عليها، (2-3-7-8-11-15-19-33-
34)، نجد أنه يحد من رتابة الزمن الواحد التي يمارسها المضارع والماضي، كما يحدث تنويعاً وتحولاً في دلالة القصيدة.

ـ الضمائر:

ـ تحضر الضمائر بشكل مكثف في القصيدة، وتحيل على جهات متعددة (الإنسان ـ الطبيعة ـ بكل مكوناتها، الأشياء.)، لكننا سنركز في تحليلنا على الضمائر التي تحيل على الأشخاص، وبالتحديد سيف الدولة والشاعر، محاولين الكشف عن مختلف دلالاتها في النص.
ـ ضمائر الأشخاص: الشاعر والممدوح:
ـ يمكن تضيف الضمائر التي تحيل على الشاعر انطلاقاً من عناصر موضوعاتية وتركيبية، وهكذا نحصل على التصنيف التالي:
ـ البنية النفسية والجسدية: ـ قلباه ـ مهجتي ـ وجداننا ـ حالي ـ جسدي ـ  جفوني ـ ضحكي ـ راحتي .
ـ القيم والعلاقة الإنسانية: معاملتي ـ حاسدنا ـ شرفي.
ـ الشعر: أدبي ـ كلماتي ـ
ـ تضخيم  الأنا : يجمعنا ـ أنا ـ مجلسنا ـ علينا ـ وجداننا ـ أخلقنا ـ أمرنا ـ حاسدنا ـ وبيننا ـ لنا ـ ميامننا ـ
ـ أما الضمائر التي تحيل على الممدوح فيمكن تصنيفها حسب الشكل التالي:
ـ الفراق : نفارقهم ـ بعدكم.
ـ الإحساس: سركم ـ أرضاكم.
ـ الفعل الاجتماعي: تطلبون ـ تأتون ـ يعجزكم ـ
ـ المخاطب الجمعي: سركم ـ أرضاكم ـ تطلبون ـ تأتون ـ بعدكم ـ يعجزكم ـ نفارقهم.
انطلاقاً من التصنيف السابق يمكن تسجيل مجموعة من الاستنتاجات:
ـ إن أول ملاحظة هي أن الشاعر يضخم ذاته بشكل ملفت للنظر، وذلك باستعماله ضمير المتكلم الجمع للتعبير عن نفسه، وينسجم هذا الشكل التعبيري على مستوى التركيب مع البعد الدلالي للقصيدة الذي يقوم على تأكيد الذات الشاعرة على مستوى الشاعرية والفروسية، كما يعكس طبيعة شخصية المتنبي المتعالية.
ـ يسوي المتنبي بينه وبين سيف الدولة على مستوى ضمائر الجمع، خارقاً بذلك مقولة مراعاة المقام للمقال، التي سنها النقد العربي القديم.
    ومخاطبته الممدوح بضمير الجمع المخاطب يؤكد نوعية العلاقة الحميمية التي تربط بينهما..
ـ ترتبط الضمائر في القصيدة بالأحاسيس والهواجس الأساسية التي تسكن البنية النفسية للمتنبي، وتحتل علاقته المتوترة بسيف الدولة مكانة مهمة وخاصة في هذا السياق، والقصيدة منذ بدايتها تعلن حضور الضمائر بشكل مكثف..
ومن بجسمي وحالي عنده سقم


واحر قلباه ممن قلبه شبم

وتدعي حب سيف الدولة الأممِ


مالي أكتم حباً قد برى جسدي

فليت أنا بقدر الحب نقتسم.


إن كان يجمعنا حب لغرته

فالضمائر توظف هنا للتعبير عن التناقض الوجداني الذي يمزق شعور المتنبي بسبب عدم تكافؤ العلاقة بينه وبين الممدوح، وجاءت الضمائر لتعكس ذلك:
(قلباه، قلبي، بجسمي، جسدي، يجمعنا، أنا)، فأغلب الضمائر تعود على الشاعر، لتقدم صورة رائعة عن عناصر إحساسه.
إن استعمال الضمائر التي تحيل مباشرة على الشاعر تدعم المنحى الدلالي للقصيدة، فهي ترتبط بأهم عناصر مقصديته والتي سبق تصنيفها في بداية التحليل انطلاقاً من الضمائر وهي: البنية النفسية والجسدية، القيم والعلاقة الإنسانية، تأكيد الذات، الشعر.
ـ أما الضمائر المرتبطة مباشرة بالممدوح فتحيل على أهم عنصر سلبي فيه وهو إنصاته للوشاة والحساد، لتتوزع بعد ذلك على الفعل الاجتماعي، والفراق، والتعريض


(([1])) سنتعرض بتفصيل لهذا المفهوم لاحقاً.

3 التعليقات:

  1. أ.د.عمر محمد الطالب



    عزف على وتر النص الشعري
    دراســــــــة فــي
    تحلــيل النصـــوص الأدبيــة الشعريـة



    من منشورات اتحاد الكتّأب العرب
    دمشق - 2000

    ردحذف
  2. الموضوع منقول للفائدة

    أ.د.عمر محمد الطالب
    عزف على وتر النص الشعري
    دراســــــــة فــي
    تحلــيل النصـــوص الأدبيــة الشعريـة



    من منشورات اتحاد الكتّأب العرب
    دمشق - 2000

    ردحذف