وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الخميس، 24 يناير 2013

أقواس

أقواس
بقلم : الدكتور أمين الزاوي
 

الروائي الذي يتمنى أن يكون مجرما كبيرا !
ما أكتبه في هذا المقال قد وقع بالحرف، تماما بتمام، مرات ما يحدث في واقعنا أكثر غرابة مما نتخيله، و ما أرويه لكم حكاه لي الروائي نفسه، و هو بطل هذه الحكاية. 
هو روائي شاب، موهوب حصل على جائزة رئيس الجمهورية للشباب المسماة "علي معاشي"، كان ذلك قبل بضع سنوات، حصل عليها في جنس الرواية، خجول و لكنه جرئ، له تجلياته و خرجاته و له شيطانه، بعد حصوله على الجائزة، كان يتمنى أن يكون "ديك" مدينته التي لا تبعد إلا بضع كلومترات عن العاصمة، مدينة سميت مرقد العاصميينdortoir des algérois .
حكى الروائي بعظم لسانه ما يلي: ... و لأنني متوج بجائزة رئيس الجمهورية، التي حزنت أنني لم أتسلمها من يدي الرئيس نفسه لأنه بكل بساطة لم يحضر المراسيم، و لكنني قلت في نفسي، على كل هي جائزة كبيرة لأنها تحمل اسمه، منذ الإعلان عن الجائزة لم يتوقف هاتفي عن الرنين، مكالمات من الأصدقاء و أولاد الحارة و أبناء القرية و أصحاب الدكاكين و حتى الحلاق كلمني مهنئا، و لكن المكالمة الهامة هي تلك التي جاءتني من صحفية متميزة تشتغل في واحدة من أكبر الجرائد التي تصدر في بلادنا، كانت ترغب في إجراء حوار مطول معي، اتفقنا على أن يكون الموعد بمقر الجريدة حتى نضمن وجود المصور المحترف لأخذ صور كثيرة، فالجريدة في مثل هذه المناسبات النادرة بحاجة إلى مثل ذلك، هكذا قالت الصحفية. 
فرحت و قلت لنفسي: هذه فرصتك يا ابن أمه !! اتفقنا أيضا على اليوم و الساعة، و كانت مستعجلة حتى لا "يموت الحدث"، على حد تعبيرها. و أنا أيضا كنت أرغب في أن يكون ذلك في أسرع وقت، حتى لا ينساني المثقفون و خاصة زمرة الروائيين الذين تأكلهم الغيرة، من جيلي و من جيل السبعينيات، فعلي أن أغتنم فرصة "ارتباط اسمي باسم رئيس الجمهورية" كي أطلع إلى الفوق، كي أسجل اسمي بحروف من ذهب !! 
و كان اليوم، و قد جئت المكان بساعة قبل الموعد، دون حساب الساعات الأخرى التي قضيتها في المقهى المقابل لمقر الجريدة و الساعات التي قضيتها و أنا أجوب الشارع ذهابا و إيابا لأتأكد من أنني في العنوان الصحيح. 
كانت الصحفية لطيفة، و قد عاملتني برقة عالية، و طلبت لي و لها فنجاني قهوة، و بدأت تهطل علي بأسئلة في السيرة الذاتية و في السياسية و عن إحساسي و أنا أحصل على جائزة رئيس الجمهورية و طلبت مني رأيا في الرواية العالمية و العربية و الجزائرية، و قد حاولت أن أجيب عن كل سؤال بتفصيل و بمهارة. 
و بين الحين و الآخر كان المصور يرجمني بشهب فلاش كاميرته اليابانية الضخمة التي تشبه الكلاشينكوف، فأعدل من جلستي و أصنع ابتسامة على شفتي، و أحاول ألا يضيع مني حبل الكلام. انتهى الحوار و قد سودت دفترا كاملا، و في الوقت نفسه كانت تستعين بجهاز تسجيل صغير التقط كل ما تفوهت به، قالت لي: كتبت كل شيء على الكراسة و لكني قد أعود إلى التسجيل لاستكمال أو تدقيق شيء ما يكون قد فاتني من حديثك العميق و المتميز، فرحت لكلامها و لاعترافها و كأنها أرادت أن تقول لي: إن لجنة التحكيم و هي تمنحك جائزة فخامة رئيس الجمهورية لم تكن مخطئة في اختيارها هذا أبدا.
عدت إلى مدينتي فرحا بالجائزة و لكن فرحتي ربما بالحوار الذي سيصدر في أكبر جريدة كان أعمق من الجائزة نفسها لأن غياب الرئيس عن حفل التوزيع خيب ظني، و أدخل في قلبي كآبة ما.
انتظرت يومين و لم يظهر الحوار، و أنا الذي أخبرت الجميع بأنه سيصدر بسرعة "حتى لا يموت الحدث" ! كان الجميع يسألونني حين أدخل المقهى أو أمر أمام بقال الحي عن تأخر صدور الحوار فلا أعرف بماذا أرد. 
هذا الصباح، و قبل خروجي من البيت، قررت أن أهاتف الصحفية، إذا لم يظهر الحوار في عدد اليوم، و قد مضى عليه قرابة أسبوع، و لكني ما أن وضعت رجلي على رصيف الشارع حتى ناداني البقال قائلا بأعلى صوته: يا ليتك كنتَ مجرما ! 
احترت لسؤال البقال، ثم قلت: ماذا تعني بهذا الكلام يا عم إدريس؟ قال لي دون أن يرفع نظره فيّ: اشتر الجريدة الشهيرة و عد إلي، أو لا تعد فستجد تفسيرا لهذا الكلام.
قفزت إلى كشك الجرائد، أخذت الجريدة، و بسرعة فتحت عليها من الأخير باحثا عن الصفحة الثقافية، وإذا بي أمام مقال عني لا يتعدى حجمه حجم نعي أو الإعلان عن الترخيص لجمعية خيرية أو التشهير لشركة مشبوهة، و قد زينت تلك الأسطر بصورة لي تشبه صور الموتى في الإعلانات عن الوفيات. لم يكن هذا هو الذي أغاضني و لكن المقال الذي كان بجوار المقال عني هو الذي أثارني أكثر و أكثر، مقال يكاد يغطي ثلاثة أرباع الصفحة الثقافية، مقال تفصيلي يتحدث و يروي قصة "مجرم" قتل ثلاثة من أفراد أسرته، نظرت إلى المقال عني، أنا الحاصل على جائزة فخامة رئيس الجمهورية في الرواية، و إلى المقال عن المجرم الذي قتل ثلاثة من أفراد أسرته، و فهمت ما قصد إليه البقال العم إدريس، فقلت: يا ليتني كنت مجرما ! 

0 التعليقات:

إرسال تعليق