وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الخميس، 7 مارس 2013

اويأتي الربيع ..

ويأتي الربيع ..
بقلم: بهجت الرشيد
كان الدرج يصرّ تحت قدميه .. جفاه الكرى ، فانزلقت به ذكريات الماضي القريب ..
بتثاقل تطأ قدماه على الدرج .. فاستقر أخيراً على الأخير .. قلب النظر في أرجاء الصالة التي بدأت تستقبل أولى أشعة الشمس الدافئة .. كل شيء في الصالة .. الطاولة الفارغة .. الأكواب الفارغة .. الرفوف الفارغة .. كان يكس نفسيته الفارغة من كل إحساس بما يحصل وقتذاك ..
لقد ترك فؤاده هناك .. بعيداً .. خلف آلاف الأميال .. ولو كان اللقاء ممكناً لباع حياته بلحظة دفء كفيها ..
بتثاقل أيضاً أحضر كوباً من الشاي علّه يصحو من نوم الأشهر الفائتة ، بل قل من ضياعه ..
ثم توجه نحو النافذة المطلة على حديقة المنزل .. فتحها .. استقبل بوجهه أولى النسمات الصباحية التي تودع الشتاء .. مع أن الثلج كان لا يزال يغطي الأرجاء ، والبرد لا يزال يبسط سلطانه في الأجواء ..
هل سيكون القادم أفضل ؟ هل استطيع أن ارسم على تقاسيم وجهي الكئيبة الحزينة ابتسامة ولو متكلفة أو مصطنعة يوماً ما ؟ هل بقيَ لي هناك شربة ماء قبل أن يختفي هذا الجسد في تراب الغربة ؟
غرق في تساؤلاته محاولاً فتح كوة ولو صغيرة للتفاؤل المستحيل ..
لسعة بردٍ ضربت جسده النحيل ..
كان نهاراً استثنائياً بحق .. مساحات من البياض تعكس أشعة الشمس بانسيابية خلابة .. أغصان الأشجار تنفض عن نفسها كتل الثلج المتراكم ، فيتساقط الثلج محدثاً صوتاً يشبه الخشخشة .. كاسراً الصمت الذي يكتنف المدى ..
هل ستسقط يوماً ما قطعة ثلج على هذا الفؤاد المكتوي ، فيطفئ فيه جمرة الحرقة والألم ؟
لسعة برد أخرى تضرب وجهه الشاحب .. يسقط الكوب من يده .. ينتبه .. يستيقظ .. يداه ترتعشان .. لون الشاي المسكوب على الأرض أعاد لذاكرته المتهرئة لون الدم الذي كان يحاول جاهداً نسيانه منذ ذلك اليوم الذي قلب حياته رأساً على عقب ..
ـ أخي .. أخي .. لا .. لا ..
ـ أختاه .. أيها الأوغاد الأنذال ..
يسقط شبه مغمى عليه إثر ضربة من بندقية ..
تتداخل الأصوات .. صياح النساء .. بكاء الأطفال .. توسلات .. لعنات .. لا فرق ..
ـ أليس عندكم نساء تخشون عليهنّ !
تشتعل دواخله .. بركاناً يفور .. لكن الجسد ضعيف ..
لحظات صمت .. هل ستنقشع تلك الغيمة السوداء ؟ وهل ..
سيمفونية حزينة تخترق الصمت الكاذب .. ألحان الرصاص تخترق الأجساد المتوسلة ..
ـ لم يبقَ سواه ..
ـ إذن ..
نعم .. وقتئذٍ كان يريده بقوة .. يفتح له صدره ..
ـ افعلوها فحسب أيها الأوغاد .. ولتلعنكم كل مخلوقات الله بكل اللغات ..
السماء باتت حمراء قانية .. اختفت الأصوات .. غارت في عمق الذاكرة ..
يفتح عينيه على أنابيب تخترق جسمه .. أشباح تغدو وتروح .. همسات مشوشة ..
ـ لقد فتح عينيه .. استعاد وعيه ..
يتأمل المكان ..
ـ لا .. لا .. لا .. ليس مرة أخرى .. لا .. لا ...
انتبه على صوت سيارة ( مزيل الثلج ) ، وهو يصيح : لا .. لا .. والعرق يتساقط من جبينه ليختلط مع لون الشاي المسكوب ..
استعاد القليل من نفسه .. أصغى إلى لغات لم يألفها ، وربما لن يألفها أبداً ..
جال بنظره في الحديقة ..
هناك .. في طرفها .. لاحظ نبتة خضراء صغيرة تجاهد لتثبت نفسها وسط كثافة الثلج ، لتقف سامقة ، ولتعلن أخيراً عن الفصل القادم من فصول الحياة .. الربيع ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق