متحدثٌ بارع وكاتبٌ فاشل
بقلم : د. موسى الحالول- الطائف
يقول المثل الشعبي، "أسمع كلامَك
يعجبني، أشوف عمايلك أتعجَّب." قد يصلح هذا المثل تشخيصًا لحال بعض كتابنا
الذين تسمعهم يتحدثون، فتنبهر بسعة ثقافتهم، وعمق تفكيرهم، وغنى مفرداتهم
النقدية، ومتانة عباراتهم. ولكن عندما تطالع أعمالهم المنشورة يتبين لك ما
لا يُفصح عنه الحديث الشفوي الذي يقتصر إدراكه من قبل الدماغ على حاسة
السمع. في الكتابة تنكشف أمام عينيك عيوب النسق الذي يسير عليه الكاتب،
وعيوب النسق الكتابي لا يمكن للأذن إدراكها حين يتحدث الكاتب، مما يجعلك
تنجرف في حبه بفعل السمع الأحادي، على نحو ما وصف بشار بن بُرد قديمًا، "يا
قوم أذني لبعض الحيِّ عاشقةٌ/ والأذن تعشق قبل العين أحيانا."
في أثناء إجازة الحج الأخيرة أخبرني أحد الأصدقاء العاملين في جامعة الطائف أن القناة الفضائية الرسمية في بلده، حيث كان يقضي الإجازة، ستستضيفه بعد أيامٍ في برنامجِ حوارٍ فكري حول قضيةٍ إشكاليةٍ من قضايا عصرنا، وأن مشاركته ضمن هذا البرنامج هي بمناسبة صدور كتابٍ له حول الموضوع. وبالفعل شاهدت البرنامج الذي دام ساعةً مرتين (مرةً حيًّا على الهواء، ومرةً في الإعادة)، وأعجبني ما أدلى به صديقي العزيز من آراء حصيفة، كما أعجبتني أيضًا تفنيداته المنطقية لمداخلات كلٍّ من مقدم البرنامج والضيف الآخر. وانتظرت عودة صاحبي، مع نسخة من الكتاب، إلى الطائف بفارغ الصبر.
غير أن أملي خاب منذ الصفحة الأولى من الكتاب الذي فاقت صفحاته الأربعمئة صفحة، وخيبة أملي لا علاقة لها بمحتواه الفكري بالدرجة الأولى، بل بما أسميه بعيوب الكتابة العربية عمومًا. وأول ما يتجلى للعيان منها الفوضى في علامات الترقيم التي ما زال استخدامها لدينا يعاني من بدائية شديدة، حيث يظن كثيرٌ من كتابنا أنها من المحسنات الشكلية للكتابة، ولذلك تجدهم يتمادون في التفنن فيها لاعتبارات مزاجية لا علاقة لها بالمنهجية أو علمي النحو والدلالة. وعلامات الترقيم أصلاً بضاعةٌ غربية استوردناها فأفسدناها رغم أنف أهلها. وثاني عيوب الكتاب هو كثرة الأخطاء الإملائية والمطبعية. ومما لفت انتباهي، على سبيل المثال، أن اسم الروائي الفرنسي ألان روب غرييه ظهر في صفحة واحدة بخمس طرق مختلفة. الغريب أننا نعيش حالة من الحداثة التكنولوجية، حيث نستخدم الحاسوب للكتابة، بَيْدَ أننا لم نرتق بكتاباتنا إلى مستوى يوازي هذه الحداثة (بالمناسبة، هذه إحدى الأفكار التي يطرحها الكاتب نظريًّا ولا يمارسها عمليًّا). وثالث عيوب الكتاب هو الفوضى في توثيق المصادر والمراجع، وهذا من الأمراض السارية في الكتابات العربية، حيث لا يوجد نظام موحد متبع خلال فصول الكتاب. ورابع هذه العيوب هو انتقال المؤلف من فقرة إلى فقرة بلا تسلسل منطقي، مما جعل فكرة كل فصل من فصول الكتاب تضيع في دوامة الاستطرادات الكثيرة. وهذا يجعل استخلاص الفكرة المركزية لكل فصل تتطلب إعادة قراءة الفصل مرات عديدة لتجميع أشتاتها من بين ثنايا هذه الاستطرادات. لا شك أن منشأ هذه الاستطرادات هو ثقافة المؤلف الغزيرة وحرصه المفرط على اقتباس شيء ما من كل كتاب قرأه، حتى وإن لم يكن النص المُقتبس مما يضيء الفكرة المطروحة للنقاش. وما ينساه كثيرٌ من مؤلفينا أن المعارف التي نهلوها عبر مراحل متعددة من حياتهم يجب ألاّ تُضخَّ على الورق دفعة واحدة حين يكتبون عن موضوعٍ محددِ المشكلة والغاية.
تساءلت في نفسي: لماذا أجاد صاحبي في طرح المشكلة عندما تحدث عنها على الهواء وفشل في طرحها على الورق؟ لماذا كان متحدثًا بارعًا وكاتبًا فاشلاً؟ (بالمناسبة، صرحت لصاحبي برأيي هذا، وقد تقبله برحابة صدرٍ قلما تجدها عند أحدٍ من كتابنا). أعتقد أن عامل الزمن، حيث أُتيح لكل من الضيفين الحديث لمدة ثلث ساعة تقريبًا، أملى على المتحدث أن يطرح قضيته ضمن ضوابط زمنية ساعدت في طرح فكرة الكتاب بشكل واضح وموجز ومعقول. كما أن وجود مُحاور جيد أسهم في رفع مستوى الطرح. من ناحية أخرى، عندما نقارن حديث المؤلف مع كتابته نجد أن خلو الميدان من ضابِطَي الزمن والمكان جعل الكتابة تنفلت من عقال الأسس الأكاديمية الواجب اتباعُها، ولاسيما أن الكتاب منشور لدى ناشر تجاري (أي لا يتدخل في محتوى الكتاب ما دام المؤلف يدفع نفقات النشر)، رغم أن الناشر، والسرُّ يُذاع، اختار لداره اسمًا موغلاً في التراث الحضاري الإنساني! ومما يُؤسف له أشد الأسف هو ذلك التعلق المَرَضَيّ الذي يبديه بعض كتابنا بكل جملة يكتبونها إلى درجةٍ أن أحدهم يشعر كأنك تطلب منه بتر أحد أعضائه إن طلبت منه حذف جملة أو فقرة أو صفحة كاملة لأنها غير مفيدة. الكثير من كتابنا وناشرينا مصابٌ بنرجسية مفرطة، ولذلك لا يرى ضرورة أن يعرض بضاعته على أصحاب الشأن وزملاء المهنة لمراجعتها وتدقيقها قبل النشر. ولهذا ليس غريبًا أن تخلو معظم كتبنا من صفحة "شُكر"، التي قد تبلغ عدة صفحات في الكتب الإنكليزية، حيث يسجل المؤلف اعترافه بالجميل لكل من أسهم في قراءة النص قبل نشره وأدلى برأي مفيد، إلخ. أعيد طرح سؤالي السابق مرة أخرى: لماذا يبرع المؤلف العربي في الحديث ويفشل في الكتابة؟ الحديث فعل فردي تظهر فيه الموهبة الشخصية للمتحدث من غير عوائق اجتماعية، بينما الكتابة، ولا سيما المنشورة، فعل اجتماعي يكون الكاتب أحد أطرافه فقط. فهناك راقن (إن لم يكن المؤلف يجيد استخدام الحاسب، مثل صاحبي، أو ليس لديه الوقت لطباعة بحثه شخصيًّا)، وهناك محرر، وهناك منضد أو مُخْرج، وهناك ناشر. ولكل من هؤلاء مزاجيته الخاصة، ولا أقول رؤيته، التي تترك بصمتها (السيئة غالبًا) على مُنتَج المؤلف. فإذا كان الكاتب يحتاج إلى مساعدة في تحرير كتابه بالشكل الأمثل، أو ما يُسمّى بالإنكليزية editorial help، فإنه قطعًا لن يجدها عند أيٍّ من شركائه هؤلاء. وإن كان كاتبًا محترفًا، وليس بحاجة إلى مساعدة من هذا النوع، فإنه غالبًا ما يفاجأ بتصحيفات الراقن، أو تدخلات المحرر أو الناشر، وهي تدخلات لا تصب في مصلحة الكتابة عمومًا. والأنكى من ذلك أن التعديلات التي تُجرى على النص الأصلي تتم من دون مراجعة المؤلف أو استشارته.
يُروى أن أحد الكتاب الغربيين (لم أعد أتذكر اسمه) بعث لصديقه أو أحد أفراد أسرته رسالةً من خمس صفحات، وقد ذيَّلها بهذا الاعتذار الطريف، "أرجو المعذرة على الإطالة، إذ لم يكن لدي الوقت لكتابة صفحة واحدة!" نعم، قد تتطلب كتابة صفحة واحدة وقتًا أطول من كتابة خمس صفحات، لأن ذلك يتطلب المراجعة والتنقيح والحذف والاختصار إلى آخره من متطلبات الكتابة الرصينة. فليت كثيرًا من كتابنا ومفكرينا، ولاسيما ممن تعلموا أصول الكتابة في جامعات غربية، يعون هذه القاعدة ويعملون بموجبها، لعلنا نرتقي بلغتنا العربية المكتوبة إلى مستوى المنافسة مع اللغات الأخرى التي تحظى باحترامٍ وعنايةٍ من أبنائها بدلاً من أسوار الإهمال واللامبالاة (أو حتى الاستهجان) التي نصطدم بها كلما أثرنا مثل هذه القضية مع المعنيين بها، افتراضًا، من أبناء جلدتنا. ولا بد من تضافر جهود الكتاب ومؤسسات النشر لتحقيق هذا الهدف المنشود، بدلاً من أن يُترَك الأمر للمزاجيات الفردية.
في أثناء إجازة الحج الأخيرة أخبرني أحد الأصدقاء العاملين في جامعة الطائف أن القناة الفضائية الرسمية في بلده، حيث كان يقضي الإجازة، ستستضيفه بعد أيامٍ في برنامجِ حوارٍ فكري حول قضيةٍ إشكاليةٍ من قضايا عصرنا، وأن مشاركته ضمن هذا البرنامج هي بمناسبة صدور كتابٍ له حول الموضوع. وبالفعل شاهدت البرنامج الذي دام ساعةً مرتين (مرةً حيًّا على الهواء، ومرةً في الإعادة)، وأعجبني ما أدلى به صديقي العزيز من آراء حصيفة، كما أعجبتني أيضًا تفنيداته المنطقية لمداخلات كلٍّ من مقدم البرنامج والضيف الآخر. وانتظرت عودة صاحبي، مع نسخة من الكتاب، إلى الطائف بفارغ الصبر.
غير أن أملي خاب منذ الصفحة الأولى من الكتاب الذي فاقت صفحاته الأربعمئة صفحة، وخيبة أملي لا علاقة لها بمحتواه الفكري بالدرجة الأولى، بل بما أسميه بعيوب الكتابة العربية عمومًا. وأول ما يتجلى للعيان منها الفوضى في علامات الترقيم التي ما زال استخدامها لدينا يعاني من بدائية شديدة، حيث يظن كثيرٌ من كتابنا أنها من المحسنات الشكلية للكتابة، ولذلك تجدهم يتمادون في التفنن فيها لاعتبارات مزاجية لا علاقة لها بالمنهجية أو علمي النحو والدلالة. وعلامات الترقيم أصلاً بضاعةٌ غربية استوردناها فأفسدناها رغم أنف أهلها. وثاني عيوب الكتاب هو كثرة الأخطاء الإملائية والمطبعية. ومما لفت انتباهي، على سبيل المثال، أن اسم الروائي الفرنسي ألان روب غرييه ظهر في صفحة واحدة بخمس طرق مختلفة. الغريب أننا نعيش حالة من الحداثة التكنولوجية، حيث نستخدم الحاسوب للكتابة، بَيْدَ أننا لم نرتق بكتاباتنا إلى مستوى يوازي هذه الحداثة (بالمناسبة، هذه إحدى الأفكار التي يطرحها الكاتب نظريًّا ولا يمارسها عمليًّا). وثالث عيوب الكتاب هو الفوضى في توثيق المصادر والمراجع، وهذا من الأمراض السارية في الكتابات العربية، حيث لا يوجد نظام موحد متبع خلال فصول الكتاب. ورابع هذه العيوب هو انتقال المؤلف من فقرة إلى فقرة بلا تسلسل منطقي، مما جعل فكرة كل فصل من فصول الكتاب تضيع في دوامة الاستطرادات الكثيرة. وهذا يجعل استخلاص الفكرة المركزية لكل فصل تتطلب إعادة قراءة الفصل مرات عديدة لتجميع أشتاتها من بين ثنايا هذه الاستطرادات. لا شك أن منشأ هذه الاستطرادات هو ثقافة المؤلف الغزيرة وحرصه المفرط على اقتباس شيء ما من كل كتاب قرأه، حتى وإن لم يكن النص المُقتبس مما يضيء الفكرة المطروحة للنقاش. وما ينساه كثيرٌ من مؤلفينا أن المعارف التي نهلوها عبر مراحل متعددة من حياتهم يجب ألاّ تُضخَّ على الورق دفعة واحدة حين يكتبون عن موضوعٍ محددِ المشكلة والغاية.
تساءلت في نفسي: لماذا أجاد صاحبي في طرح المشكلة عندما تحدث عنها على الهواء وفشل في طرحها على الورق؟ لماذا كان متحدثًا بارعًا وكاتبًا فاشلاً؟ (بالمناسبة، صرحت لصاحبي برأيي هذا، وقد تقبله برحابة صدرٍ قلما تجدها عند أحدٍ من كتابنا). أعتقد أن عامل الزمن، حيث أُتيح لكل من الضيفين الحديث لمدة ثلث ساعة تقريبًا، أملى على المتحدث أن يطرح قضيته ضمن ضوابط زمنية ساعدت في طرح فكرة الكتاب بشكل واضح وموجز ومعقول. كما أن وجود مُحاور جيد أسهم في رفع مستوى الطرح. من ناحية أخرى، عندما نقارن حديث المؤلف مع كتابته نجد أن خلو الميدان من ضابِطَي الزمن والمكان جعل الكتابة تنفلت من عقال الأسس الأكاديمية الواجب اتباعُها، ولاسيما أن الكتاب منشور لدى ناشر تجاري (أي لا يتدخل في محتوى الكتاب ما دام المؤلف يدفع نفقات النشر)، رغم أن الناشر، والسرُّ يُذاع، اختار لداره اسمًا موغلاً في التراث الحضاري الإنساني! ومما يُؤسف له أشد الأسف هو ذلك التعلق المَرَضَيّ الذي يبديه بعض كتابنا بكل جملة يكتبونها إلى درجةٍ أن أحدهم يشعر كأنك تطلب منه بتر أحد أعضائه إن طلبت منه حذف جملة أو فقرة أو صفحة كاملة لأنها غير مفيدة. الكثير من كتابنا وناشرينا مصابٌ بنرجسية مفرطة، ولذلك لا يرى ضرورة أن يعرض بضاعته على أصحاب الشأن وزملاء المهنة لمراجعتها وتدقيقها قبل النشر. ولهذا ليس غريبًا أن تخلو معظم كتبنا من صفحة "شُكر"، التي قد تبلغ عدة صفحات في الكتب الإنكليزية، حيث يسجل المؤلف اعترافه بالجميل لكل من أسهم في قراءة النص قبل نشره وأدلى برأي مفيد، إلخ. أعيد طرح سؤالي السابق مرة أخرى: لماذا يبرع المؤلف العربي في الحديث ويفشل في الكتابة؟ الحديث فعل فردي تظهر فيه الموهبة الشخصية للمتحدث من غير عوائق اجتماعية، بينما الكتابة، ولا سيما المنشورة، فعل اجتماعي يكون الكاتب أحد أطرافه فقط. فهناك راقن (إن لم يكن المؤلف يجيد استخدام الحاسب، مثل صاحبي، أو ليس لديه الوقت لطباعة بحثه شخصيًّا)، وهناك محرر، وهناك منضد أو مُخْرج، وهناك ناشر. ولكل من هؤلاء مزاجيته الخاصة، ولا أقول رؤيته، التي تترك بصمتها (السيئة غالبًا) على مُنتَج المؤلف. فإذا كان الكاتب يحتاج إلى مساعدة في تحرير كتابه بالشكل الأمثل، أو ما يُسمّى بالإنكليزية editorial help، فإنه قطعًا لن يجدها عند أيٍّ من شركائه هؤلاء. وإن كان كاتبًا محترفًا، وليس بحاجة إلى مساعدة من هذا النوع، فإنه غالبًا ما يفاجأ بتصحيفات الراقن، أو تدخلات المحرر أو الناشر، وهي تدخلات لا تصب في مصلحة الكتابة عمومًا. والأنكى من ذلك أن التعديلات التي تُجرى على النص الأصلي تتم من دون مراجعة المؤلف أو استشارته.
يُروى أن أحد الكتاب الغربيين (لم أعد أتذكر اسمه) بعث لصديقه أو أحد أفراد أسرته رسالةً من خمس صفحات، وقد ذيَّلها بهذا الاعتذار الطريف، "أرجو المعذرة على الإطالة، إذ لم يكن لدي الوقت لكتابة صفحة واحدة!" نعم، قد تتطلب كتابة صفحة واحدة وقتًا أطول من كتابة خمس صفحات، لأن ذلك يتطلب المراجعة والتنقيح والحذف والاختصار إلى آخره من متطلبات الكتابة الرصينة. فليت كثيرًا من كتابنا ومفكرينا، ولاسيما ممن تعلموا أصول الكتابة في جامعات غربية، يعون هذه القاعدة ويعملون بموجبها، لعلنا نرتقي بلغتنا العربية المكتوبة إلى مستوى المنافسة مع اللغات الأخرى التي تحظى باحترامٍ وعنايةٍ من أبنائها بدلاً من أسوار الإهمال واللامبالاة (أو حتى الاستهجان) التي نصطدم بها كلما أثرنا مثل هذه القضية مع المعنيين بها، افتراضًا، من أبناء جلدتنا. ولا بد من تضافر جهود الكتاب ومؤسسات النشر لتحقيق هذا الهدف المنشود، بدلاً من أن يُترَك الأمر للمزاجيات الفردية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق