التقدير الصحيح: لا إله (حق) إلا الله. وإنما قلنا الصحيح لاعتبارات منها: -إجماع كل الطوائف على صحة هذا المعنى. -ملاءمته لمقتضيات الشرع. -سلامته مما يرد على غيرها من التقدير. -تصريح أئمة اللغة والتفسير والعقيدة به. بيان ذلك: يدور التقدير على مفهوم "استحقاق العبادة" ولا ضير من تنويع العبارة كأن نقول: -لا إله (حق) إلا الله. -لا إله (بحق) إلا الله. -لا إله (يستحق العبادة) إلا الله. -لا إله (معبود بحق) إلا الله... ويكون" إله" في الكلمة الطيبة تعني "معبود" ويسار الى التأويل التالي: -لا (معبود) (حق) إلا الله. ويستأنس في هذا المقام بآيات قرآنية" أظهرت المقدر" كما في قوله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } وفي قوله: { أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } . ويفهم من الآيتين- وغيرها- أن القرآن لم ينف الآلهة بقيد الوجود ولكن نفاها بقيد الحقيقة .بل إن القرآن ذكر من تلك الآلهة أنواعا وأشخاصا : {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (23) سورة نوح فهذه الآلهة موجودة لكنها باطلة. كما يفهم أيضا أن الله كان معبودا عند المشركين,لكن مع آلهة أخرى.فهم لم يستنكروا عبادة الله بل استنكروا إفراده بالعبادة.وهذا هو معنى كلمة التوحيد ,ويكون تقدير استحقاق العبادة هو المتعين بالنظر إلى أحوال المشركين .. ومن هنا لا يرد على هذا التقدير ما ورد على تقدير (موجود) أو (ممكن).ويضعف ما قاله ابن عرفة الدسوقي :"وإنما حذف الخبر هنا الذي هو المسند مع أن الظاهر بباديء الرأي ذكره لما فيه من التنبيه على غباوة المشركين الذين قصدوا بالرد عليهم بالكلمة المشرفة في اعتقادهم العدد في الألوهية لأجل أن يخيل للسامع أن المتكلم عدل الى الدليل العقلي الذي هو أقوى من الدليل النقلي(كذا)كما هو مقرر في محله." ومع ذلك فالدسوقي رحمه الله لا يمنع من صحة تقدير "استحقاق العبادة"قال: "وقيل التقدير لا إله يستحق العبادة إلا الله .واعترض بإنه إنما يفيد نفي استحقاق غيره للعبادة ولا يفيد نفي إمكان إلهية غيره سبحانه.ويجاب بنحو ما مر بأن يقال إن استحقاق العبادة والألوهية في نفس الأمر متلازمان فيلزم من نفي استحقاق العبادة من غيره تعالى من الآلهة نفي إمكان غيره من الآلهة." قلت: لا وجه للاعتراض ولا حاجة إلى رده.فقد تبين أن القرآن يذكر وجود آلهة أخرى فضلا عن إمكانها.وسر هذا الاضطراب هو فهم الالوهية ربوبية بالمعنى المطابقي.فافتراض "ربين" بمعنى خالقين متصرفين مبدعين مشكل من الناحية العقلية (معضلة التمانع) وليس كذلك افتراض إلهين بمعنى معبودين...فقد عبد غير الله فعلا...وقريب من هذا قول الرازي فى تفسيره:قال (:" بل يكون الخبر هو قولنا في نفس الأمر" أي : أن الله مستحق للعبادة دون غيره في نفس الأمر ، أي : ليس هناك آخر ممكن أن يستحق بل في نفس الأمر حقيقة لا وجود لشيء يستحق العبادة لا إمكاناً ولا وجوداً إلا الله سبحانه وتعالى . وإذا نفينا وجود من يستحق العبادة مع الله وإمكان وجوده في نفس الأمر فإنه لا يعنينا بعد ذلك ما وقع من الكفار في جعلهم مناة تستحق العبادة مع الله أو جعلهم غيرها من الآلهة مستحقة للعبادة مع الله ، ففرق بين نفس الأمر وبين دعوى الغير ، فإنّها تكون باطلة مردودة عليه.)وهو كلام جيد كما ترى. ثم إن الاجماع واقع على صحة تقدير "استحقاق العبادة" لا يخالف في ذلك أحد من المنتسبين إلى الإسلام.فلا المعتزلي ولا الرافضي ولا الزيدي ولا الأشعري ولا السلفي يذهب الى أن هناك من يستحق العبادة غير الله تعالى. وهذه بعض اقوال العلماء بمختلف مذاهبهم: -قال أبو عبد الله القرطبي فى تفسيره ( لا إله إلا الله ) أى لا معبود إلا هو. -وقال الزمخشرى : الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق. -وقال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذى يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التى تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع . -وقال ابن رجب : ( الإله ) هو الذى يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل فمن أشرك مخلوقا فى شئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه فى قول ( لا إله إلا الله ) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب مافيه من ذلك. -وقال البقاعي : لا إله إلا الله أى انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة وإنما يكون علما إذا كان نافعا وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه وإلا فهو جهل صرف. -وقال الطيبي : ( الإله ) فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من أله إلهة أى عبد عبادة .(يرجع الى تيسير العزيز الحميد.وقد ختم الشارح نقله لهذه الأقوال بقوله:وهذا كثير فى كلام العلماء وإجماع منهم.) | ||
هذا الخبر المقدر- بالتقدير الصحيح الراجح(حق) أو بالتقدير المرجوح(موجود)-مرفوع عند النحاة.لكنهم اختلفوا في عامل الرفع فيه. 1-زعم سيبويه أن الخبر مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخول "لا".بمعنى تركبت" لا "مع اسمها حتى صارت كالكلمة الواحدة وجاء الخبر عن المجموع.فلا يقول سيبويه إن (حق) خبر ل"لا" بل هو خبر عن المبتدأ المركب من "لا"و"إله".وتعليل ذلك عنده ضعف "لا" عن العمل بسبب التركيب فلم يصل أثرها الىالخبر.فإن قيل كان مقتضى التعليل أن لا تعمل فى اسمها أيضا ,قلنا إن سيبويه لم يمنع العمل مطلقا بل منع قوته وعمل الجزء فى الجزء المركب معه جائز كما فى "عبد الله" علما. 2-ذهب الأخفش والأكثرون إلى أن الخبر المقدر معمول ل"لا".فهو خبرها عملت فيه كما عملت في الاسم. 3-قال الكوفيون بمثل قول سيبويه في منع عمل "لا" فى الخبر, مع فارق جلي أنهم يمنعون عمل "لا "في الخبر مطلقا.أما سيبويه فلا يخالف قومه إلا فى حالة كون الخبر مفردا إما إذا كان مضافا أو شبيها به فقولهم واحد. وبناء على هذا ,سيكون معنى الكلمة الطيبة عند أبي الحسن الأخفش: "كل إله غير الله وجوده منتف" أو الأفضل:"كل إله غير الله استحقاق عبادته منتفية" . و سيكون معنى الكلمة الطيبة عند سيبويه: "انتفى كل إله غير الله متصف بالوجود" أو الأصح:"انتفى كل إله غير الله متصف باستحقاق العبادة". الفرق لطيف في هذا المقام فتأمل. | ||
الأربعاء، 27 فبراير 2013
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق