وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الأربعاء، 15 فبراير 2012

- العلاقة القائمة بين قصيدة المتنبي ونماذج شعرية معينة.



النموذج الأول

فلا تظنن أن الليث مبتسم


إذا رأيت نيوب الليث بارزة

يؤكد الشيخ يوسف البديعي أن هذا البيت مأخوذ من ديك الجن([1])
رة ليث في لبدتي رئبال


وإذا شئت أن ترى الموت في صو

أبيض صارم وأسمر عالي


فألقه غير أنما لبدتاه

فيرى ضاحكاً لعبس الصيال


تلق ليثاً قد قلصت شفتاه

في حين يرى العكبري([2]) أن معنى البيت مأخوذ من قول الشاعر:
أبدى نواجذه لغير تبسم


لما رآني قد نزلت أريده

ويورد العكبري والشيخ يوسف البديعي بيتاً لأبي تمام:
فخيل من شدة التعبيس مبتسما


قد قلّصت شفتاه من حفيظته

فيرى الأول أنه مأخوذ من البيت الذي سبقت الإشارة إليه قبله مباشرة، في حين يرى الثاني أنه مأخوذ من ديك الجن.
انطلاقاً مما سبق نسجل الملاحظتين التاليتين:
أولاً  : اختلاف العكبري ويوسف البديعي في تحديد موطن السرقة الأصلي، وهذه مسألة طبيعية لأن تحديد السرقة يرتبط بثقافة المتلقي وحدوسه وخلفياته المضمرة.
ثانياً  : الشارح يحدد موطن السرقة في المعنى، في حين أن صاحب "الصبح المنبي" لا يحدد مجالها.
يدخل الشيخ يوسف البديعي البيت في الضرب الخامس عشر من السرقة وهو: "أن يأخذ المعنى ويسيراً من اللفظ، وذلك من أقبح السرقات وأظهرها شناعة على السارق"([3]). إلا أنه رغم ذلك يمتدح سرقة المتنبي عندما يعلق عليها قائلاً:
"لكنه أبرزه في صورة حسنة فصار أولى به"([4]).
-يلاحظ من خلال كلام يوسف البديعي تركيزه على سلبية السرقة المرتبطة بالمعنى، وهذا الحكم مخالف للتصور الحالي والذي يرى أن الشعر صياغة شكلية.
إن المقارنة بين بيت المتنبي وأبيات ديك الجن تؤكد وجود تجانس واختلاف بينهما، سنحاول تحديده.
فعلى المستوى المعجمي الصرف: تتكرر مجموعة من الوحدات المعجمية بنفس الحروف والأصوات في النموذجين معاً:
بيت المتنبي
أبيات ديك الجن
نيوب الليث- الليث
ليث- ليثاً
رأيت
فيرى
كما تربط علاقة الترادف بين بعض الكلمات الواردة في النموذجين:
بيت المتنبي
أبيات ديك الجن
يبتسم
يرى ضاحكاً
نيوب الليث بارزة
قلصت شفتاه
وهناك تشابه على مستوى البنية التركيبية، فالمتنبي يستعمل "إذا رأيت" وهذا التركيب مشابه لـ"وإذا شئت أن ترى" الذي يستعمله ديك الجن.
كما أن النموذجين يتجانسان على مستوى الدلالة.
انطلاقاً من العملية الوصفية السابقة، يمكن تحديد الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين المتنبي وديك الجن:
-                  آلية المماثلة         : وتتحدد في تشابه النموذجين على عدة مستويات: المعجم، التركيب، الدلالة، وهذا يؤدي إلى حوار بين الشاعرين يطبعه احترام النموذج الأول وتكريسه.
-                  آلية التكثيف         : إن الفرق الجوهري بين النموذجين يتمثل في خاصية التكثيف التي تميز بيت المتنبي، على المستوى الدلالي، بواسطة الاختزال وتجنب الحشو والتمطيط والتفصيل. ولا شك أن البحر كشكل عروضي قد ساعد المتنبي على تحقيق عنصر التكثيف.
-                  آلية التأليف         : هناك عنصر آخر منح بيت المتنبي جمالية آسرة، يتحدد في طريقة التأليف بين الوحدات المعجمية وطبيعة العلاقات التركيبية التي تجمع بينها. ويمكن القول بتحفظ مرن، أن بيت المتنبي أقرب إلى بيت أبي تمام على مستوى التأليف:
أبدى نواجذه لغير تبسم


لما رآني قد نزلت أريده

النموذج الثاني:
والسيف والرمح والقرطاس والقلم([5])


الخيل والليل والبيداء تعرفني

أخذه:
رابع العيس والدجى والبيد


اطلبا ثالثاً سواي فإني

وقد أخذه أبو الفضل الهمذاني بقوله:
وأنني تدعواني الفضل والنعم


إن شئت تعرف في الآداب منزلتي

والسيف والنرد والشطرنج والقلم


فالطرف والقوس والأوهاق تشهد لي

تربط بين نموذج المتنبي ونموذج أبي الفضل الهمذاني علاقة تناص، على عدة مستويات، يمكن اختزالها في الخطاطة الموالية:

بيت المتنبي
بيت أبي الفضل الهمذاني
- الإيقاع
البسيط- القافية: ميمية مطلقة
البسيط- القافية ميمية مطلقة
- التركيب
نفس البنية التركيبية
نفس البنية التركيبية.

(مماثلة مطلقة)
(مماثلة مطلقة)
- المعجم
السيف- القلم
السيف- القلم
- الحقول الدلالية
(الغول- السيف- الرمح)
(الطرف والقوس والأوهاق والسيف)

الحرب
الحرب
انطلاقاً من الجدول السابق يمكن تحديد الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين بيت أبي الطيب المتنبي، وبيت أبي الفضل الهمذاني، على الشكل التالي:
آلية المماثلة  : تشمل آلية المماثلة كل مكونات الخطاب الشعري في البيتين:
                فهي تظهر على مستوى الإيقاع (نفس البحر والقافية)، وعلى مستوى التركيب (بنية تركيبية ونحوية متجانسة)، وعلى مستوى المعجم (تطابق بين بعض الكلمات، كما تشمل جزءاً هاماً من الدلالة (العناصر الدلالية التي تحيل على الحرب).
آلية التأليف   : نفس الآلية التي تتحكم في البنية التركيبية والنحوية لبيت الهمذاني:
تتحكم في مثيلتها بالنسبة لبيت المتنبي، ويمكن التدليل على ذلك من خلال المقارنة بين البيتين:

والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني  //
بيت المتنبي

والسيف والنرد والشطرنج والقلم
فالطرف والقوس والأوهاق تشهد لي
بيت أبي الفضل الهمذاني
آلية الاختلاف    : يمكن حصر آلية الاختلاف التي تتحكم في الفرق بين البيتين في مستويين:
-الدلالة: إذا كان البيتان يحيلان على حقلين دلاليين محدودين في الحرب والكتابة، فإنهما يختلفان في الإحالة على حقول دلالية أخرى، ويتمثل ذلك في:
1-أن المتنبي: يختلف عن الهمذاني، فالأول يحيل على عالم المغامرة والرحيل (الليل- البيداء)، في حين أن الثاني يحيل على عالم المتعة واللهو (النرد- الشطرنج). وقد أعطى التأكيد على عالم المغامرة والرحيل شحنة دلالية متميزة لبيت المتنبي، تضافرت مع باقي العناصر الأخرى التي توظف لتأكيد الذات لرسم بطولة فردية للشاعر.
-الصوت: يتميز بيت المتنبي بشكل واضح وأساسي عن بيت أبي الفضل الهمذاني على المستوى الصوتي الصرف، إذ تتحقق للأول موسيقية آسرة تغيب في الثاني، ويرجع ذلك إلى توفق المتنبي في اختيار وحدات معجمية ذات أصوات متقاربة المخارج وسهلة النطق، في حين أن أبا الفضل الهمذاني استعمل كلمات أفقدت بيته جماليته المحتملة (الأوهاق- النرد- الشطرنج).
وفي الأخير لابد من الإشارة إلى علاقة التناص بين بيت المتنبي وبيت البحتري، على عدة مستويات:
المعجم: البين البيداء
الترادف النسبي: الليل - الدجى.
الدلالة: مماثلة جزئية (الإحالة على المغامرة والرحيل.). وهذا هو العنصر الدلالي الذي أخذه المتنبي من البحتري، واحله محل عالم المتعة الذي استغنى عنه، والذي يحضر في نموذج أبي الفضل الهمذاني، وهكذا نرى بوضوح مدى استفادة المتنبي من البحتري وأبي الفضل الهمذاني في تشكيل بيته الشعري.

النموذج الثالث:

فمالجرح إذا أرضاكم ألم.


إن كان سركم ما قال حاسدنا

قال الواحدي هذا من قول منصور الفقيه:
ت أن لقلبك فيه سرورا


سررت بهجرك لما علمـ

ولا كنت يوماً عليه صبورا


ولولا سرورك ما سرني

إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا


لأني أرى كل ما ساءني

تتحدد علاقة التناص بين النموذجين الشعريين السابقين في المستويات التالية:
المعجم: تتطابق بعض الكلمات في النموذجين تطابقاً تاماً لأنها تتكرر بنفس الأصوات والحروف:
نموذج المتنبي
إذا أرضاكم
سركم
نموذج منصور الفقيه
إذا كان يرضيك
سررت- سروراً- سرورك ما سرني
المعجم:
التركيب: هناك تشابه بين النموذجين على مستوى البنية التركيبية، رغم أن القراءة الأولى والمتسرعة لبيت المتنبي توهمنا بعكس ذلك، ولا يمكن للتشابه التركيبي أن يتضح إلا بإعادة تفكيك بيت منصور الفقيه:
إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا


لأني أرى كل ما ساءني

وإعادة كتابته من جديد على الشكل التالي:
فإنني أرى ذاك سهلاً يسيراً([6])


إذا كان يرضيك ما ساءني

ولابد من الإشارة إلى ملاحظة أساسية تتحدد في محافظتنا الكلية على نفس البنية الإيقاعية للبيت، بعد إعادة ترتيب عناصره التركيبية من جديد.
وهكذا يبدو التجانس التركيبي واضحاً بين النموذجين خصوصاً بين صدريهما:
فإنني أرى ذاك سهلاً يسيرا


إذا كان يرضيك ما ساءني

فما لجرح إذا أرضاكم ألم.


إن كان سركم ما قال حاسدنا

الدلالة: يحيل النموذجان على نفس الدلالة، والفرق بينهما أن المنصور يخاطب المرأة، أما المتنبي فيخاطب الممدوح، أي أن غرضي النموذجين مختلفان: الغزل والمدح.
من خلال المناقشة السابقة، نستخلص أهم الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين النموذجين:
آلية المماثلة  : وهي جزئية ومحدودة على المستويات التالية: المعجم، التركيب، وتبدو أكثر وضوحاً في الدلالة.
آلية التكثيف  : أهم خاصية تميز بيت المتنبي عن أبيات منصور الفقيه هي خاصية التكثيف، فقد اختزل الأول دلالة الأبيات الثلاثة،
وهناك إمكانية ثانية هي أن المتنبي لم يختزل كل أبيات منصور الفقيه، بل اقتصر على إعادة صياغة البيت الأخير فقط، وما يعضد هذه الفرضية المماثلة الدلالية بينه وبين بيت المتنبي.
آلية الاختلاف    : وتظهر على مستوى التركيب، حيث أعاد المتنبي كتابة بيت منصور الفقيه بتقديم عناصر تركيبية وتأخير أخرى، وذلك بنقل:
                   "إذا كان يرضيك" التي تقع في بداية عجز نموذج منصور الفقيه إلى أول عجز نموذجه: "إن كان سركم ما قال حاسدنا.
                   وعلى مستوى المعجم: أدخل تغييراً على الكلمات، وذلك باستعمال أخرى بدلها، إما بواسطة الترادف: "إن كان سركم" بدل "إذا كان يرضيك".
                   أو بواسطة تحديد المعنى وتخصيصه: "حاسدنا" بدل "كل ما ساءني" أو عن طريق التقابل المعنوي: "فما لجرح إذا أرضاكم ألم" عوض: "إذا كان يرضيك سهلاً يسيراً".
آلية التحويل : وتتحدد في أن المتنبي أخرج المعنى من غرض أصلي (الغزل) إلى غرض آخر (المدح)، إلا أننا لن نبالغ في أهمية ذلك، لأن مخاطبة الممدوح مخاطبة المحبوب، من خصائص شعر المتنبي، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في البحث.
يتضح مما سبق- رغم محدودية أهمية ما قمنا به- مختلف المراحل التي يخضع لها النموذج الأصلي حتى يتم احتواؤه من طرف النموذج الفرعي، وعلى كل، فالأكيد أن آليات التناص جد معقدة وغامضة.

النموذج الرابع:

يزيلهن إلى من عنده الديم.


ليت الغمام الذي عندي صواعقه

وهو مأخوذ من قول حبيب:
كما قصرت عنا لهاه ونائله


فلو شاء هذا الدهر أقصر شره

ومثله لابن الرومي:
وعند ذوي الكفر الحيا والثرى الجعد


أعندي تنقض الصواعق منكما

وللبحتري
خلف إيماض برقه وجموده


سيله يقصد العدى تجاهي

وأخذه السري الموصلي فقال:
حظي، وحظ سواي من أنوائه.


وأنا الفداء لمن مخيلةُ برقه

-إن القراءة الأولية للأبيات السابقة تؤكد وجود عناصر مشتركة بينها:
المعجم: تتكرر الوحدات المعجمية التي تحيل على عالم الطبيعة:
- ابن الرومي:                         الصواعق- الثرى الجعد.
- البحتري:                             سيله- إيماض برقه.
- السري الموصلي:          مخيلة برقه
- المتنبي:                     الغمام- صواعقه- الديم.
-التركيب   : نلاحظ في كل الأبيات توزع الضمائر بين المتكلم المفرد والغائب المفرد، بين شطري البيت بشكل متساوٍ تقريباً، وغالباً ما يحيل ضمير المتكلم المفرد على الشاعر.
-الدلالة     : هناك تشابه على المستوى الدلالي بين كل الأبيات السابقة، رغم اختلاف الشعراء في طريقة التعبير عن المعنى المقصود.
انطلاقاً مما سبق نستنتج كالعادة الآليات التي تتحكم في علاقة التناص، بين نموذج المتنبي وباقي النماذج الشعرية السابقة أو المعاصرة له.
-آلية المماثلة   : تتحكم في بيت المتنبي على عدة مستويات، المعجم (تشاكل الطبيعة)، التركيب (توزع الضمائر بين المتكلم المفرد والغائب المفرد)، الدلالة (الإحالة على نفس المعنى الذي تحيل عليه الأبيات السابقة).
-آلية التأليف : وتظهر واضحة على مستوى المعجم، فقد وظف المتنبي وحدات معجمية تحيل على عالم الطبيعة (الغمام- الديم- صواعقه)، وكلها تحضر في النماذج الأخرى، إلا أن المتنبي استطاع أن ينتقي كلمات شاعرية في حد ذاتها (الغمام، الديم)، وهنا تحضرني الدراسة التي أنجزها ريفاتير: Michael Riffaterre عن "شاعرية الكلمة عند فيكتور “Lp poetisutian du not chy Victor Hugo”. ونحن في حاجة إلى مثل هذه الدراسات في الأدب العربي، لأنها تمكننا من الخصائص الأسلوبية والشعرية للشعراء. وإذا توفق المتنبي في انتقاء وحدات معجمية شاعرية، فإنه لم يتوفق في الصياغة الشكلية خصوصاً في عجز البيت "يزيلهن إلى ما عنده الديم"، وهكذا يبدو تفوق نموذجين اثنين في رأيي- على نموذج المتنبي في هذا السياق وهما بيت أبي تمام:
كما قصرت عنا لهاه ونائله


فلو شاء هذا الدهر أقصر شره

وبيت السري الموصلي:
حظي وحظ سواي من أنوائه.


وأنا الفداء لمن مخيلة برقه

وينطبق عليه فعلاً تعليق العكبري: "وألفاظ السري وسبكه أحسن من الجماعة"([7])
ـ يصدر حازم القرطاجني مجموعة من الأحكام حول البسيط في مواضع مختلفة من كتابه فيصفه بالبساطة والطلاوة "وتجد للبسيط بساطة وطلاوة"(([8]))ويمنحه إلى جانب الطويل متانة متميزة بالمقارنة مع باقي البحور لقدرتهما على احتواء تجارب شعرية ومعاني مختلفة: "ومن تتبع كلام الشعراء في جميع الأعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها من الأوزان ووجد الافتتان في بعضها أعم من بعض، فأعلاها درجة في ذلك الطويل والبسيط"(([9])). ويلتقي الدكتور عبد الله الطيب مع حازم القرطاجني في تفضيله الطويل والبسيط على سائر البحور:
"الطويل والبسيط أطول بحور الشعر العربي، وأعظمها أبهة وجلالاً، وإليهما يعمد أصحاب الرصانة وفيهما يفتضح أهل الركاكة والهجنةوهما من الأوزان العربية بمنزلة السداسي عند الإغريق والمرسل التام عند الإنجليز"(([10])) ويصفه بالجلالة والروعة: "البسيط  كما قدمنا أخو الطويل في الجلالة  والروعة"(([11])).
والملاحظة المثيرة هي أن عبد الله الطيب لا يتحدث عن البسيط حديثاً مستقلاً، فهو دائماً يقارنه بالطويل ليبقى أسير التصور النقدي الشائع الذي يفضل الطويل على كافة البحور: "والطويل أفضلهما وأجلهما وهو أرحب صدراً من البسيط، وأطلق عناناً، وألطف نغماً [..]، ومما يدلل على سعة الطويل، أنه تقبل من الشعر ضروباً عدة كاد ينفرد بها عن البسيط، مثال ذلك أن الشعراء الغزليين على عهد بني أمية أكثروا من النظم فيه على أنهم أقلوا جداً من البسيط".(([12]))
يعتبر عبد الله الطيب أن أصل البسيط الرجزي ينقص من جماله وموسيقيته:
"وأصل البسيط رجزي، ولا يكاد وزن رجزي يخلو من الجلبة مهما صفا"(([13])).. ويؤكد نفس الفكرة في موضع آخر "ويقصد بالبسيط  أن فيه بقية من استفعالات الرجز ذات دندنة تمنع نغمه أن يكون خالص الاختفاء  وراء كلام الشاعر، وكامل النزول منه بمنزلة الجو الموسيقي الذي يتكون من الشعر كالإطار من الصورة".
ينتقل عبد الله الطيب إلى إنارة علاقة البسيط بانفعالات معينة، فيرى أنه: "لا يكاد يخلو من أحد النقيضين: العنف أو اللين"(([14])).
بعد إصدار هذا الحكم يقدم نماذج شعرية مختلفة لتأكيد شرعيته وصحته، ومن ضمنها قصائد للمتنبي، الذي يرى أن "أعنف ما قاله في البسيط"(([15]))، ويعتبر قصيدة "واحر قلباه" من أروع وأعنف ما نظمه "هذا وللمتنبي من الشعر العنيف في بحر البسيط، روائع عدة، فأحيل القارئ على ديوانه  وليقرأ هجاءه لكافور وعتابه لسيف الدولة  في قوله "واحر قلباه ممن قلبه شبم"……….."(([16])).
إن هذه الأحكام المرتبطة بالبسيط ليست صحيحة بشكل مطلق، فالموسيقى البحر ليست عنصرا ًثابتاً بل متغيراً تبعاً لقدرة، الشاعر الخاصة على التحكم في الإيقاع وتشكيله وتنويعه، فالقصيدة الواحدة رغم انتمائها إلى بحر واحد فإنها لا تعكس تجانساً موسيقياً واحداً، كما أن البسيط لا يقترن دائماً بصفتي اللين والعنف، فهو كشكل إيقاعي قابل  لاحتواء صفات وأحاسيس ومعاني متناقضة، إلا أن عبد الله الطيب ينطلق في أحكامه من نماذج شعرية قديمة تمارس تأثيراً على حسه الذوقي والانطباعي..
نكتفي إذن بهذه المعطيات النظرية التي تتمحور حول إشكالية موسيقى الشعر ومعناه، وتمس بكيفية مباشرة: علاقة الوزن الشعري بالغرض أو المعنى الذي يحيل عليه. ولابد من الإشارة إلى ملاحظة منهجية أساسية هي أن إثارة العلاقة بين أوزان الشعر ومعانيه لم تبعدنا عن القصيدة وعن  هويتها العروضية و علاقة هذه الأخيرة بالغرض أو المعنى.
بل إنني أعتبر هذه الخطوة أساسية لأنها تضعنا مباشرة أمام أحكام  ومواقف نقدية معيارية ينبغي أن نحدد موقفنا منها عند تحليل أي نص شعري قديم، ومن سوء حظ النقد العربي ـ إن صح هذا التعبير ـ أن إثارة إشكالية موسيقى الشعر ومعناه تميزت بخاصتين سلبيتين:
الأولى:أهميتها التنظيرية محدودة لم تفرز مساهمات عميقة تساعد المحلل على توظيفها في النصوص.
الثانية:  أفرزت أحكاماً نقدية معيارية أغلبها خاطئة، تستند إلى الذوق والانطباع، ومع ذلك ما زالت تجد صداها في الكثير من الدراسات المهتمة بالشعر.(([17]))
وإذا انتقلنا  إلى النقد الغربي فإننا نلاحظ عمقاً واهتماماً كبيراً بالإشكالية، أفرز دراسات جادة ومهمة. تنتمي القصيدة على المستوى العروضي إلى بحر البسيط، الذي يحتل المرتبة الثانية في الشعر العربي بعد الطويل، من حيث نسبة الشيوع، والثالثة في شعر المتنبي بعد الطويل والكامل، وانطلاقاً من المناقشة السابقة لإشكالية موسيقا الشعر ومعناه، والانتقادات الموجهة للذين يتبنون الربط التقليدي بين الأوزان والمعاني، فإننا لن نتساءل عن ملائمة البحر للغرض الشعري، رغم سهولة تأكيد ذلك.
يمكن التأكيد على أن البحر البسيط باعتباره بحراً طويلاً، أتاح للشاعر إمكانية إيجابية لإيصال معاني معينة، ومنحه نفساً تركيبياً ودلالياً لكي يشحن تفاعيله بتجربة شعرية وشعورية معقدة، تتوزعها أغراض مختلفة: المدح، الفخر، العتاب وأحاسيس متناقضة: الحب، العتاب، الغضب………..
ويعتبر هذا في حد ذاته نسفاً للتصور التقليدي الذي يحصر بحوراً معينة في أغراض ومعانٍ وأحاسيس معينة، فقصيدة المتنبي تشهد تحولات أساسية وجوهرية على مستوى الدلالة رغم ثبات الشكل الإيقاعي الذي يتحكم  في صياغتها وهو البحر.

2 ـ القافية:

الوزن والقافية مكونان أساسيان في الشعر القديم، إلى درجة أن معظم تعاريف الشعر العربي تؤكد على ضرورة حضورهما في حده  وتعريفه، وإذا فقدهما لا يسمى شعراً: "فالقافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية".(([18]))
عرفت القافية تعريفات مختلفةمن طرف النقاد والعروضيين(([19]))، ولا يهمنا التوقف عند كل تعريف على حدة، لذلك نكتفي بالإشارة إلى
تعريفين شائعين:
الأول: للخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يعرفها كالتالي: القافية من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه من قبله، من حركة الحرف الذي قبل الساكن. وهذا التعريف هو الثابت في كتب العروض.
الثاني: والتعريف الثاني لثعلب ويجد القافية في الحرف الذي يتكرر في آخر كل بيت من أبيات القصيدة أي حرف الروي، وهذا هو المفهوم الشائع للقافية.
لم تحظ القافية باهتمام النقاد العرب والمستشرقين، وركز العروضيون عليها  كعنصر عروضي منفصل عن النص الشعري بمكوناته وعناصره الأخرى كالصوت والمعجم والتركيب والدلالة..
وقد أدى  تقصير النقاد والعروضيين في دراسة مختلف الوظائف التي يمكن أن تؤديها القافية في الخطاب الشعري إلى ندرة الدراسات الجادة التي يمكن للمحلل أن يستفيد منها"(([20]))
وأمام هذا الفراغ لا يسع المحلل إلا أن يستعين ببعض الدراسات الغربية التي حاولت أن تحدد مختلف الوظائف التي تحققها القافية في الخطاب الشعري: فقد تكون الوظيفة جمالية أو دلالية أو سيميائية، مع تحديد دورها في الإيقاع وعلاقتها بكل العناصر المكونة للنص الشعري.
ـ قافية القصيدة ميمية مطلقة، ولابد في البداية من التوقف عند هذين العنصرين: حرف القافية وحركتها.
ـ نسبة شيوع حرف الروي:
يعتبر روي القصيدة من أكثر الحروف شيوعاً كقافية ، وقد صنف الدكتور إبراهيم أنيس حرف الروي حسب نسبة شيوعها إلى أربعة أقسام:
"ـ حرف تجيء روياً بكثرة وإن اختلفت نسبة شيوعها في أشعار الشعراء وتلك هي: الراء. اللام. الميم. النون. الباء. الدال. السين. العين.
ـ حروف متوسطة الشيوع وتلك هي: القاف. الكاف. الهمزة. الحاء. الفاء. الياء. الجيم.
ـ حروف قليلة الشيوع:  الضاد. الطاء. الهاء. التاء. الصاد (التاء).
ـ حروف نادرة في مجيئها روياً: الذال. الغين. الخاء. الشين. الزاي. الظاء. الواو".(([21])).
فحرف القافية إذن، من أكثر الحروف التي تجيء روياً في الشعر العربي، ويضاف شيوعها فيه إلى شيوع البسيط الذي تنتمي إليه القصيدة على المستوى العروضي وهكذا يحافظ المتنبي على الثوابت الإيقاعية في الشعر العربي على مستوى شيوع الوزن والقافية، والميم باعتبارها قافية تحتل المرتبة الثانية بعد اللام في شعر المتنبي


([1]) الصبح المنبي عن حيثية المتنبي. ص193.
([2]) شرح العكبري. ص368.
([3]) الصبح المنبي. ص193.
([4]) نفسه. ص193.
([5]) فالخيل والليل والبيداء تعرفني              والضرب والطعن والقرطاس والقلم- كما جاء في شرح العكبري: 369.
([6]) مع اعتذارنا للشاعر الأصلي.
([7]) ..؟.. العكبري. ص371.
(([8])) المنهاج، ص 269.
(([9]))نفسه: ص268.
(([10])) المرشد. الجزء الأول. ص: 362.
(([11])) نفسه. ص 414.
(([12]))نفسه: ص362.
(([13])) نفسه: ص 362.
(([14])) المرشد. الجزء الأول: ص 415.
(([15])) نفسه. ص : 432.
(([16]))  نفسه، ص: 434
(([17])) يراجع: موسيقى الشعر العربي.
(([18])) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق، تحقيق محمد محيي الدين، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981، ص : 151، ج I.
(([19])) نفسه: الجزء  I : ص 151-154.
(([20])) لاحظ هذا التقصير: شكري  محمد عياد في : موسيقى الشعر العربي، ص :99. وجمال الدين بن الشيخ في كتابه الشعرية العربيية:
lapoétiyue arabe و Jamal Eddine Ben ch eikh و Ed. Outhiropos paris. 1975
(([21])) موسيقى الشعر : ص : 275.

1 التعليقات:

  1. الموضوع منقول للفائدة

    أ.د.عمر محمد الطالب
    عزف على وتر النص الشعري
    دراســــــــة فــي
    تحلــيل النصـــوص الأدبيــة الشعريـة



    من منشورات اتحاد الكتّأب العرب
    دمشق - 2000

    ردحذف