وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الأربعاء، 15 فبراير 2012

علاقة الشاعر بالممدوح:


علاقة الشاعر بالممدوح:

إن العلاقة بين الإنسان/ الشاعر، والإنسان/ الممدوح، تنقسم إلى علاقة إيجابية، وأخرى سلبية:
الأولى  : تعكسها علاقة الحب الصادق من طرف الشاعر بالإضافة إلى المدح.
الثانية  : تعكسها بنية العتاب الذي يصل أحياناً إلى درجة التعريض والتعنيف نظراً لتفريط الممدوح في علاقته الإيجابية بالشاعر.
إن القراءة المتأنية للقصيدة تؤكد أن الصورة السلبية لسيف الدولة طغت على صورته الإيجابية، خصوصاً إذا أدخلنا في عين الاعتبار عاملاً مهماً وهو أن المدح في القصيدة ذو قيمة دلالية وفنية باهتة بالمقارنة مع بنيتي الفخر والعتاب، ولو كان المتنبي مخيراً لألغاه، ولكن الطقوس الرسمية والسلطوية تفرض عليه التطرق إلى المدح. وهكذا تصبح بنية  المدح باردة الانفعال، محدودة الصدق لأن الشاعر يعيد معاني متكررة، لاجدة فيها سواء على المستوى الشكلي أو المضموني. ومما يؤكد هذه الفكرة أن القصيدة تبتدئ بالعتاب وتنتهي به ولا تبتدئ بالمدح أو النسيب.

علاقة المتنبي بباقي الأشخاص:

علاقة المتنبي بباقي الأشخاص، التي تشكل عالم الإنسان المطلق، علاقة يمكن تصنيفها إلى قسمين:
-علاقة سلبية     : تتحدد في أنه يتخذ موقفاً من بعض الأشخاص نظراً لنوعية سلوكهم السلبي نحوه، الشيء الذي يدفع الشاعر للانتقاص منهم وذمهم.
-علاقة محايدة   : إن بعض الوحدات المعجمية التي تحيل على الإنسان المطلق، تحتمها ضرورة فنية صرفة تتمثل في توصيل معنى محايد، أي أن علاقة الشاعر ببعض مستويات الإنسان تصبح ملغية لأنه يوظفها لإيصال معنى محدد. (الإنسان- صديق- الناس- أخو الدنيا).
قبل تحليل العلاقة السلبية بين الشاعر وبعض الأشخاص الذين يشكلون عالم الإنسان المحدد، نقوم في البداية بالعملية التصنيفية التالية:
العلاقة
الدلالة
البيت
مستوى الإنسان
سلبية
النفاق
تدعي حب سيف الدولة الأمم
الأمم
سلبية
دونية المخاطبين
-سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
الجمع- المجلس
سلبية
تفوقه على الشعراء
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر القوم جراها ويختصم
الخلق
سلبية
صفة الحسد
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
حاسدنا:
سلبية
الرحيل/ النبوة
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون هم
قوم
سلبية

بأي لغط تقول الشعر زعنفة
تجوز عندك لا عرب ولا عجم
الزعنفة
-إن العلاقة بين المتنبي وباقي مستويات الإنسان علاقة سلبية، والملاحظة الأساسية أن سبب توترها يرجع إلى عنصر الشاعرية، فالمتنبي كشاعر بعد التحاقه ببلاط سيف الدولة خطف الأضواء وأصبح الشاعر الرسمي له، ومن هنا بدأ التآمر بين خصومه للتأثير على علاقته بالممدوح، ويشكل عنصر الشاعرية إوالية مركزية لتأدية دلالتين مختلفتين: تأكيد تفوق الشاعر، والحط من قيمة باقي الشعراء.
ولعل أوضح علاقة سلبية بين المتنبي وخصومه يعكسها البيت التالي:
تجوز عندك لا عرب ولا عجم


بأي لفظ تقول الشعر زعنفة

فالشاعر ينعت خصومه الشعراء بأحط وأخس الصفات، ولا شك أن بعضهم يحضر مجلس سيف الدولة وينصت للقصيدة. (أبو فراس الحمداني مثلاً).
-إن الاستنتاج الذي نصل إليه يتمثل في سلبية العلاقة القائمة بين الشاعر وبين غيره من الشعراء الذين تشير إليهم القصيدة بألفاظ مختلفة (زعنفة- القوم.. ..).
وتكمن خلف الصراع الخفي للحصول على مكانة معينة عند الممدوح، عوامل اقتصادية واجتماعية في ظل بنية مجتمعية لا تضمن للأديب مدخولاً قاراً، وبذلك يجد نفسه مضطراً للجري وراء مجد أدبي ومادي تضمنه السلطة مقابل المديح.

الإنسان / الممدوح:

يحضر سيف الدولة في القصيدة من خلال صورتين متناقضتين تتنازعان مختلف الدلالات التي ترتبط به.
صورة إيجابية: تتمثل في بنية المدح بشكل واضح من خلال وحدات دلالية ذرية توظف كلها لرسم صورة إيجابية للممدوح المنتصر.
صورة سلبية: تتمثل في بنية العتاب، حيث يبدو الممدوح مفرطاً في العلاقة التي تربطه بالشاعر، منصرفاً عنه إلى الحساد والوشاة.
تتشكل الصورة الإيجابية من العناصر الدلالية التالية:
-الحسن المطلق في حالتي الحرب والسلم:
وقد نظرت إليه والسيوف دم


قد زرته وسيوف الهند مغمدة

وكان أحسن مافي الأحسن الشيم.


فكان أحسن خلق الله كلهم

-قوته الحربية جعلت العدو يتفادى مواجهته، تجسد هذا المعنى الأبيات
(7-8-9-10-11) إن التركيز على البطولة العسكرية للممدوح أصبحت دلالة مستهلكة بأشكال مختلفة في قصائد المديح، ولذلك فإن المعاني التي توظف لرسمها غالباً ما تكون مجترة ومكررة، تركز على الشجاعة باعتبارها إحدى الخصال الأساسية في المديح:
إلى جانب العقل والعدل والعفة([1])، والمتنبي يركز في قصيدته أحد أقسام الشجاعة هو "النكاية في العدو والمهابة"([2]).
إن صورة الممدوح في القصيدة في شكلها الإيجابي تدفعنا إلى إبداء الملاحظتين التاليتين:
1) الصورة الإيجابية للممدوح متمثلة في الشجاعة والنكاية في العدو تجمعها طقوس رسمية تتحكم فيها السلطة السياسية، وأحكام معيارية سنها النقد العربي، وما على الشاعر إلا الاستسلام لهذين القيدين، خصوصاً أن القصيدة ستنشد أمام الممدوح، ومن المستحيل أن يخلو مدحه من صفات إيجابية، وإلا فما الداعي لإلقاء القصيدة أصلاً.
2) مختلف عناصر الصورة الإيجابية في بنية المدح مستهلك، خال من الانفعال الصادق، بخلاف بنيتي الذات (للفخر) والعتاب، وذلك يعكس توتر العلاقة بين الشاعر والممدوح.

الصورة السلبية:

إن أهم عنصر في الصورة السلبية للممدوح يتحدد في نوعية علاقته بالشاعر، ذلك أنه فرط فيها-حسب منطق القصيدة- وأخذ بكلام الحساد والوشاة.
ويمكن تقسيم هذه الصورة السلبية للممدوح إلى ثلاثة أبعاد دلالية تشكل استراتيجية العتاب:
                      العنصر الدلالي                               الأبيات
العتاب                -عدم التكافؤ في العلاقة              1-2-3-12-26
                         (تقصير الممدوح وحب الشاعر)
الوشاة                -العمل بكلام الوشاة                     27-29-36
النصيحة              -البديل في رأي الشاعر                 12-3-28
                       (إعادة إنصافه)
من خلال الخطاطة السابقة يتضح أن الصورة السلبية للممدوح تخضع لاستراتيجية معينة، إذا أعدنا ترتيب مكوناتها الدلالية، نحصل على ثلاث محطات دلالية كبرى:
-الأولى: عدم التكافؤ في العلاقة بين الشاعر والممدوح، فالشاعر يحبه حباً صادقاً، لكنه يقابل بالتقصير من طرف سيف الدولة.
-الثانية: إنصاته لكلام الوشاة والعمل به.
-الثالثة: السبيل في رأي الشاعر هو إعادة النظر في العلاقة بإنصافه، وقد عبر عن ذلك بأبيات تتضمن نصائح غير مباشرة وأخرى مباشرة.
إن حضور العناصر الدلالية السابقة لم يخضع لترتيب معين يحكمه المنطق والترتيب، بل جاء متفرقاً، وهكذا نجد الحديث عن العنصر الواحد يتكرر عدة مرات، وهذه خاصية تميز الشعر الذي يخرق منطق الأشياء والأفكار.

عالم الطبيعة:

يمكن تصنيف مكوناته حسب الشكل التالي:
الحيوان
الطير
الأرض
-الليث-الجواد-الخيل
الرخم- شهب البزاة
البيداء- الفلوات-أرض- القور والأكم-البلاد.
- الوفادة –الرسم - الناقة


انطلاقاً من الجدول السابق نستنتج كل مكونات الطبيعة لندرس شكل ودلالة حضورها في القصيدة، ولنطرح كيفية تعامل الشاعر مع الطبيعة كأحد مصادر الإبداع الشعري في مختلف الثقافات والعصور.

الحيوان:

يحضر الحيوان في القصيدة من خلال (الأسد- الفرس- الناقة) ولكن بألفاظ أخرى تحيل في النهاية على نفس الأسماء السابقة.
الخيل: ترد الوحدات المعجمية التي تحيل على الفرس مرتين:
أدركتها بجواد ظهره حرم


ومهجة مهجتي من هم صاحبها
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

الخيل والليل والبيداء تعرفني

إن الخيل ترد مقترنة بالحرب، وإذا كانت هذه الدلالة واضحة في البيت الأول، فإنها في البيت الثاني لا تدرك إلا من خلال الدلالة الإيحائية لكلمة "الخيل"، أو من خلال المعنى الذي يتبادر إلى ذهن المتلقي، وهذا ما تركز عليه شروح الديوان، فقد جاء في شرح العكبري "... والخيل تعرفني لتقدمي في فروسيتها"([3]) وعليه فالخيل توظف لتأكيد ذات الشاعر على مستوى الفروسية.
-إذا كانت لفظة "الخيل" عارية من أية صفة في البيت السابق، فإن لفظة "جواد" تقترن بصفة تتمثل في "ظهره حرم"، كما أن "جواد" تتضمن على المستوى المعجمي صفة أو نعتاً، لأن الجواد هو الفرس الكريم([4])، وهناك صفات أخرى تقترن بسرعة الفرس محدودة في المناقلة واليقال:
وفعله ما تريد الكف والقدم.


رجلاه في الركض رجل واليدان يد

إن الفرس في القصيدة يوظف دائماً لتأكيد ذات الشاعر على مستوى الفروسية، رغم إضفاء صفات إيجابية عليه، إنه في النهاية مجرد وسيط مرن وإيجابي لتحقيق بطولة فردية. ولابد من الإشارة إلى المكانة التي يحتلها لفظ الخيل في معجم المتنبي، وفي سيفيات المتنبي:
"يتكرر ثماني وخمسين مرة، وإلى جانب لفظ الخيل تتكرر مجموعة كبيرة من الألفاظ تدل على الخيل أو صفاتها أو أجزائها أو حركاتها.. ولكن معظم هذه الألفاظ لا يرد إلا مرات معدودات باستثناء لفظ الجياد الذي يتكرر عشرين مرة"([5]).

الناقة:

يرد لفظ الناقة مرة واحدة في البيت التالي:
لا تستقل بها الوفادة الرسم.


أرى النوى يقتضيني كل مرحلة

فالناقة توصف بسرعة السير من خلال الوحدتين المعجمتين "الوفادة" و"الرسم"، فالوفد والرسم ضربان من السير السريع.
-الناقة تقترن بالرحيل على مستوى الدلالة، إذ اعتبرنا النوى مرادفة للبعد([6])، وبذلك يصبح حضورها سلبياً رغم أنها كالخيل- تعتبر واسطة لرحلة مجهولة لم تتحقق زمن النظم والإنشاد، وسيكون بطلها فيما بعد هو الشاعر عند فراقه لسيف الدولة.

الأسد (الليث):

تحيل القصيدة على الليث في البيتين التاليين:
حتى أتته يد فراسة وفم


وجاهل حده في جهله ضحكي

فلا تظنن أن الليث يبتسم


إذا رأيت نيوب الليث بارزة

في البيتين تتداخل الصفات التي ترتبط بالأسد بتلك التي ترتبط بالشاعر، حتى تصبح شيئاً واحداً، فالشاعر يستعير لنفسه خصائص ترتبط بالأسد ويوهم القارئ بأن الليث في القصيدة هو الشاعر وليس الأسد..
-يقترن الليث بصفات سلبية لأنه حيوان مفترس، هذه هي صورته الحقيقية في ذهن المتلقي، والشاعر يستعير منه مقومات الإفتراس (يد فراسة وفم- نيوب الليث) لكي يرسم لنفسه صورة في صراعه ضد خصومه.

الطبيعة:

الأرض: يستعمل الشاعر مجموعة من الألفاظ التي تحيل على الأرض مثل: الأرض- البيداء- القور والأكم- البلاد.. ..، وكلها تتضمن دلالة سلبية انطلاقاً من معناها المعجمي، إلا أن الشاعر يستغل هذه السلبية بذكاء لتأكيد ذاته، فالبيداء تعرفه:
والسيف والرمح والقرطاس والقلم.


الخيل والليل والبيداء تعرفني

وهو يصحب للوحش منفرداً في الفلوات:
حتى تعجب مني القور والأكم.


صحبت في الفلوات الوحش منفرداً

فاستراتيجية الشاعر واضحة، توظيف مكونات طبيعية موغلة في السلبية، ولأنها كذلك، يوظفها لرسم صورة إيجابية عن ذاته.
و"البلاد" ترد مقترنة بمعنى سلبي: شر البلاد مكان لا صديق به// وشر ما يكسب الإنسان ما يَصمُ .
المطر: يرد من خلال "الغمام" و"الديم"
يزيلهن إلى من عنده الديم


ليت الغمام الذي عندي صواعقه

"الغمام" و"الديم" وحدتان معجميتان تتضمنان معنىً إيجابياً على المستوى المعجمي الصرف، إلا أن الشاعر يوظفهما للتعبير عن معنى سلبي، فينسب إلى الغمام الصواعق، للدلالة على الأذى، الذي يلحقه من طرف الممدوح.

-عالم الأشياء:

يحيل عالم الأشياء على وحدتين دلاليتين هما الحرب والكتابة:
يشكل الرمح والسيف العنصرين الأساسيين في عالم الأشياء المرتبط بالحرب:
يتكرر لفظ السيف في الأبيات التالية التي تنتمي إلى بنية المدح:
وقد نظرت إليه والسيوف دم


قد زرته وسيوف الهند مغمدة

تصافحت فيه بيض الهند واللمم


أما ترى ظفراً حلواً سوى ظفر

كما يتكرر لفظ السيف في بنية الذات:
حتى ضربت وموج الموت يلتطم


ومرهف سرت بين الجحفلين به

والسيف والرمح والقرطاس والقلم


الخيل والليل والبيداء تعرفني

ويرد الرمح في عجز البيت السابق تالياً للسيف:
"والسيف والرمح والقرطاس والقلم".
-إن الملاحظة الأولى تتحدد في أن نسبة تكرار السيف في بنية المدح أكثر من نسبة تكراره في بنية الذات، مع فارق بسيط يكاد يجعل النسبتين متساويتين. والمتنبي "يستعمل لفظ السيف في المدح وفي حديث الحرب بنسبة متقاربة بينما يستعمله مرات معدودات في حديثة عن نفسه"([7])، ولا تهمنا الدلالة المعجمية لتواتره في شعر المتنبي أو في القصيدة، بقدر ما يهمنا أنه يقترن بالممدوح ليمنحه قيمة إيجابية على المستوى الحربي، نظراً لصفاته الذاتية ولاقترانه دائماً بلحظة النصر والظفر.
ويستعمل الشاعر السيف كوسيلة لتأكيد ذاته في بنية للفخر على المستوى الحربي، لكن في إطار محدود وفردي، ويمكن التمييز بين مستويين في توظيفه للسيف:
المستوى الأول: يمنح السيف صفات معينة "مرهف" و"الضرب"، والصفة الثانية تستفاد من سياق البيت، أما الأولى فواضحة وتتحدد في الدلالة على أنه حاد وقاطع، المستوى الثاني: ترد لفظتا "السيف" و"الرمح" بدون صفة تحددهما، كباقي الوحدات المعجمية التي تشكل بنية البيت، فالسيف والرمح يوظفان للشهادة على بطولة المتنبي على مستوى الفروسية (الحرب)، ولايتوافران على أي امتياز ذاتي خاص بهما.
-يمكن القول بصفة عامة إن صورة السيف في القصيدة من خلال بنيتي الذات والمدح إيجابية، ولعلها أكثر وضوحاً في بنية المدح لأن الحرب فعلية وذات قيمة موضوعية. يضاف إلى ذلك الأوصاف التي أضفاها الشاعر على السيف "سيوف الهند"، "السيوف دم"، "كبيض الهند".

-الكتابة:

الأشياء التي تنتمي إلى عالم الكتابة محدودة، تجتمع في بيت واحد:
والسيف والرمح والقرطاس والقلم


الخيل والليل والبيداء تعرفني

مكونات عالم الكتابة عارية من الصفات، إنها توظف لتشهد على تفوق الشاعر على مستوى الشاعرية كما يشهد السيف والرمح على بطولته الحربية.
تتوزع عالم الأشياء عناصر تحيل على الكتابة والحرب، وهذان العالمان يتوزعان بين الشاعر والممدوح. فالممدوح هو الذي يمتلك سلطة سياسية فعلية تؤهله لخوض الحرب الحقيقية، والانتشاء بـ"ظفرها الحلو"، وكل إنجازاتها الإيجابية.
أما الشاعر فيمتلك سلطة أدبية أهلته لتحقيق شهرة أصبحت مصدر حسد الحساد وكيد الكائدين، إلا أن المتنبي مسكون بهاجس تملك السلطتين معاً، وهذه هي المعادلة الصعبة والمأساوية في حياته وشعره، استطاع أن يعكسها ويعانيها بصدق وبجرأة نفسية. ورغم وعيه باستحالة تملك السلطة السياسية التي تحقق له بطولة حربية، فإنه يصر على تملك بطولة فردية في الحرب.
والواقع يؤكد ذلك لأنه كان يشارك إلى جانب سيف الدولة في الغزوات-، وتبقى بطولته العسكرية محدودة بالقياس إلى طموحه السياسي، وعدم تملكه للسلطة السياسية.
إن عالم الأشياء عندما يحيلنا على عنصري الكتابة والحرب، يضعنا أمام الإشكالية الكبرى في القصيدة، محددة في ثنائيات لا حصر لها، تحكم العلاقة المعقدة بين الشاعر والممدوح: السلطة/ الكتابة، الشعر/ السياسة، الكلمة/ السيف، الشاعر/الممدوح، وهذه الثنائيات هي التي تمنح النص توتراً يندر تحققه في الشعر العربي القديم.
-يعاني الشاعر والممدوح من خصاء متبادل لكنه مختلف، فالأول يعاني من خصاء سياسي لأنه لا يمتلك السلطة السياسية، بل الأدبية، ويسكنه هاجس الجمع بينهما، أما الثاني فيعاني من خصاء أدبي، لأنه لا يمتلك السلطة الأدبية، التي تخلد مجده بمختلف أشكاله، لذلك يصبح الشاعر ضرورياً لتحقيق هذا الهدف، كما يصبح الممدوح ضرورياً لتحقيق مجد مادي ومعنوي للشاعر. إنها اللعبة المضمرة بين الطرفين، كلما اختلت عوامل توازنها تعرضت العلاقة بينهما لتهديد نهايتها.
الإنسان
السلطة الفعلية
السلطة الغائبة
نوعية الخصاء
الشاعر
أدبية
سياسية
سياسي
الممدوح
سياسية
أدبية
أدبي
انطلاقاً من تحليلنا السابق لعالم الأشياء، نصل إلى الاستنتاجات التالية:
-   عالم الأشياء محدود جداً، لا يشمل سوى عناصر قليلة تنتمي إلى الكتابة والحرب، ويمكن أن نفسر ذلك بأن التركيز في القصيدة يتوجه إلى عالم الإنسان.
-        يتميز بالإيجابية التي تقترن بمكوناته المرتبطة بالممدوح والشاعر، مع حضورها بكيفية أكثر أهمية في بنية المدح.
-   عالم الأشياء لا يتميز بصفات إيجابية خاصة به، إنه يوظف دائماً لخدمة معاني تنتمي إلى الممدوح أو للشاعر، ويبقى الإنسان هو المتحكم في الأشياء.

التناص: Intertextualité

-من الصعب التطرق إلى كل الإشكالات النظرية والمنهجية التي يطرحها مفهوم التناص، نظراً لكثرة الدراسات التي أنجزت حوله، وصعوبة استيعاب اتجاهاتها وخلفياتها، ومع ذلك يمكن أن نشير إلى بعض المعطيات النظرية، والملاحظات المتواضعة، التي تشكل تمهيداً لتحليل ظاهرة التناص في قصيدة المتنبي:
-   من الناحية التاريخية والاصطلاحية، ارتبط مفهوم التناص في تشكله النظري الأول بميخائيل باختين([8])، ويستعمل لفظ أو مصطلح الحوارية لينعت العلاقات القائمة بين الملفوظات، كما يؤكد أن التناص في النص الشعري خافت ومحدود بالمقارنة مع التناص في جنس أدبي آخر محدد في الرواية([9]).
وقد اهتم باحثون آخرون بظاهرة التناص من أهمهم: جوليا وريفاتير([10]) كريستيفيا([11]) وجيرار جينيت، الخ
-   تركز جل تعاريف التناص على أنه تفاعل بين عدة نصوص، فريفاتير يرى أن "التناص هو إدراك المتلقي للعلاقات بين عمل أدبي وأعمال أدبية أخرى سبقته أو تلته"([12])، ويعرفه جيرار جينيت: Gerad Gentte بأنه:
     "علاقة حضور مشترك بين نصين أو نصوص كثيرة"([13]).
     ولا داعي لاستعراض تعاريف أخرى، لأن هذه العملية لا تهمنا بالدرجة الأولى بقدر ما يهمنا تحليل التناص في القصيدة. وسنكتفي بالإشارة إلى الملاحظات التالية:
-        هناك تعاريف متعددة للتناص، وليس هناك تعريف نهائي ومطلق.
-        كل التعاريف تلح على علاقة التفاعل بين نص معين ونصوص أخرى تربطه بها علاقة التناص.
-   أغلب الدراسات التي أنجزت حول التناص ذات طابع نظري صرف، ولم تستطع تحديد آليات معينة ودقيقة لضبط ظاهرة التناص في الخطاب الشعري.
-   تحديد التناص وضبطه عملية تتحكم فيها عوامل متعددة من أهمها ثقافة المتلقي وحدوسه وكثرة إطلاعه، وقد أحس بهذه الصعوبة عبد العزيز الجرجاني، ففي سياق حديثه عن السرقة قال: "وهذا باب لا ينهض به إلا الناقد البصير والعالم المبرّز وليس كل من تعرض له أدركه، ولا كل من أدركه استوفاه، واستكمله"([14]).
-        لقد عرف النقد العربي القديم ظاهرة مماثلة للتناص هي السرقة، وقد شكلت موضوعاً للسجال وللمناقشة، إلا أنها أفرزت عدة تصورات سلبية حول التفاعل بين مختلف النصوص التي تنتمي إلى الثقافة العربية، كما وظفت لأهداف غير علمية وغير موضوعية للحط من قدر بعض الشعراء (المتنبي كنموذج)
-   وإذا عدنا إلى مستوى التحليل، فإن أهم صعوبة تطرح هي آليات التناص، وقد قمت بصياغة آليات متعددة ارتأيت أنها تتحكم في علاقة التناص التي تربط أبياتاً من القصيدة بنماذج شعرية سابقة أو معاصرة لها، وهي آليات محدودة الأهمية النظرية ولكنها مع ذلك مكنتني إلى حد ما من الكشف عن نوعية العلاقة القائمة بين قصيدة المتنبي ونماذج شعرية معينة.


([1]) نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص46.
([2]) نفسه. ص98.
([3]) العكبري، ص369.
([4]) نفسه، ص368.
([5]) سيفيات المتبني. ص99.
([6]) شرح العكبري، ص37: "قال أبو الفتح النوى هنا: النية أو المنزلة ما بين المرحلتين، ص22"
([7]) سيفيات المتنبي. ص12.
([8]) - 1-sémio tigue, Dietioonaive saisomé de le théosie du laugofe hechethe, lasis, seuil . l: 194.
([9])  2-M: Khail Bakh tiue le priucipe dialo gigue, tgvetau todoro seuil, lasis, 1981- l: 100
([10]) 4-sémiotipue de lepoéne, Michael riffaterre, seuil, lasis, 1978.
([11])  3-lp révolution du bauyage poetigue, Editions duseuil, lasis 1977
([12])  5-le production dutexte, Michael Riffatere, Semil, lasis, 1919.
([13])  6-lalimpscs tes, Geiwd Greuette, Seuil, lasis , 1978: p.
([14]) الوساطة بين المتنبي وخصومه، عبد العزيز الجرجاني، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، دار القلم، بيروت، ص183.

2 التعليقات:

  1. الموضوع منقول للفائدة

    أ.د.عمر محمد الطالب
    عزف على وتر النص الشعري
    دراســــــــة فــي
    تحلــيل النصـــوص الأدبيــة الشعريـة



    من منشورات اتحاد الكتّأب العرب
    دمشق - 2000

    ردحذف