وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الاثنين، 3 ديسمبر 2012

الرّواية والذاكرة الوطنية حوار الأدب التاريخ قراءة في نماذج روائية جزائرية



الرّواية والذاكرة الوطنية حوار الأدب التاريخ قراءة في نماذج روائية جزائرية
بقلم : فايد محمد


تؤسّس الرّواية عالمها المتخيَّل على إقامة علاقات مع ألوان إبداعية أخرى، والحقّ أنّ تلك العلاقات كانت ولا تزال محلّ اهتمام دراسات نقديّة كثيرة، ولعلّ ما يُثير الانتباه، أنّ الرّواية بوصفها جنسا أدبيّا، تجاوزت في علاقاتها الأجناس الأدبيّة، ومدّت جسورا بينها وبين شتّى الحقول المعرفية، كالتّاريخ مثلا، هذا الأخير الّذي ينحتُ جلّ كُتَّاب الرّواية متنهم الحكائي استنادا إليه، نقدا ومحاورة وانبهارا، وإعادة صياغة... .




تؤسّس الرّواية عالمها المتخيَّل على إقامة علاقات مع ألوان إبداعية أخرى، والحقّ أنّ تلك العلاقات كانت ولا تزال محلّ اهتمام دراسات نقديّة كثيرة، ولعلّ ما يُثير الانتباه، أنّ الرّواية بوصفها جنسا أدبيّا، تجاوزت في علاقاتها الأجناس الأدبيّة، ومدّت جسورا بينها وبين شتّى الحقول المعرفية، كالتّاريخ مثلا، هذا الأخير الّذي ينحتُ جلّ كُتَّاب الرّواية متنهم الحكائي استنادا إليه، نقدا ومحاورة وانبهارا، وإعادة صياغة... .
إنّ الرّواية الّتي تُحاور التّاريخ، رواية تحاول إثارة الحاضر استنادا إلى ما حدث في الماضي1، وقَدَّمَ المُؤرّخُ صياغة معيّنة له، وعليه يُمكننا القول إنّ الرّواية تهدِف من خلال تعاملها مع التاريخ أساسا، إمّا إلى إعادة بعث ذلك التّاريخ وتأكيد قداسته، وإمّا إلى نقدِه وتِبيان ما أغفله، أو تجاوزه، أو لم يمنحه حقّه، ذلك أنّ التّاريخ يُكتَبُ –غالبا- وفق قناعات نخب سلطوية ترومُ إحاطة ماضيها بهالة من رِفعة، لن تتأتّى إلى بطمس وتغييب تاريخ صُنّاع التّاريخ الحقيقيين، إنّ مُدَوِّنَ التّاريخ الّذي يُعْتَبَرُ صاحب سلطة في كتابة التّاريخ، لا يعدو أن يكون –في أغلب الأحيان- أداة تُحرِّكُها تلك النُّخب وفق ما يخدم مصالح مرحلية ضيّقة.
لن نتكلّم هنا عن الرّواية التّاريخيّة، الّتي يُعتَبَر الحدث التّاريخيّ ركيزة أساسيّة في بنائها الهيكليّ، بكلّ ما لذلك الحدث من انتماءات إلى حقبة زمنية بعينها، صنيع جرجي زيدان مثلا، بل نروم الحديث عن رواية تعودُ إلى التّاريخ، تُحاوره، تُسائله، ترفضه، تُحاول إعادة صياغته ، وتسعى إلى إضاءة الحاضر ، المرتبط وجوبا وبحكم الطبيعة البشرية، بماض يسكننا رغما عنّا –على الأقلّ في اعتقادي الشخصي- ويدفعنا إلى محاولة معرفة تفاصيله ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
تُثير العلاقة بين الرّواية والتاريخ في الثقافة العربيّة أسئلة كثيرة من قبيل "من يكتب التّاريخ في زمن سلطوي راكد غريب عن التّاريخ؟ من يكتب تاريخ سلطات تنهى عن قول الحقيقة؟ من يكتب تاريخ مجتمعات، تاريخ السلطة فيها ، هو التّاريخ الوحيد؟"2 ، ولعلّ المبرّر لطرح هذه الأسئلة يكمن في طبيعة صياغتها، فالقول إنّ تاريخ السلطة في المجتمعات العربيّة هو التّاريخ الوحيد، قول يؤكّد الواقع العربي المأزوم، ويؤكّد أيضا خصوصية الظروف الّتي نشأت فيها الرّواية العربيّة، الّتي تُعتبرُ بحثا نوعيّا "في تاريخ هويّة مأزومة، فقدت ما كان عندها، ولم تعثر على ما تريد الحصول عليه، هويّة معلّقة في الفراغ، ترى إلى ماض لا تستطيع العودة إليه، وترنو إلى مستقبل تعجز عن الوصول إلى أبوابه..."3 ، فتكتفي من ذلك بمحاولة فهم بعض ما يعتمل في راهنها، استنادا إلى ما عاشته في ماضيها، "فالحاضر حلُّه في الماضي، بل إنّ الحاضر هو نتاج ما مضى"4 مهما حاولنا تبرئة ذلك الماضي.
يجبُ أن نُشير منذ البداية، أنّنا نتحدّث عن أمرين، نتحدّث عن الرّواية العربيّة بوصفها جنسا أدبيّا حقّق لنفسه نصيبا مميّزا من التراكم كمّا وكيفا، وهذا أمر لا خلاف حوله، ونتحدّث كذلك عن التّاريخ، عن علم يتحرّى الدّقة، والصّرامة في تصوير واقعة معيّنة، ونقصد بالدّقة والصّرامة ارتباطه بتواريخ، وأسماء وشخصيات وأماكن معيّنة، لا يحقُّ له اجتراح بعضها من بنات أفكاره، بينما يقوم العمل الرّوائيّ أساسا على الخلق، وعلى دور المبدع وقدرته في نسج عوالم قد تتقاطع مع التّاريخ، ولكنّها لا تُكرّره آليا.
يصحُّ بعد الّذي سبق الاستكانة إلى طرح مؤدّاهُ أنّ الرّواية العربيّة في بعض نماذجها "نهلت من التّاريخ نتائجه، وحقّقت في مسلّماته، وأكملت ما سكت عنه التّاريخ، وصحّحت ما زيّفه"5 ، والأكيد أنّ تتبُّع الرّواية الجزائريّة مثلا، وهي جزء لا يتجزأ من الرّواية العربيّة وحتى العالميّة يَلحَظ بسهولة أنّها مثّلت رافدا أساسا، أثرى المتن الحكائي وأثّث عوالم المتخيَّل الجزائري ولا يزال.
تختلف طريقة الرّوائي في التّعامل مع الأحداث التّاريخيّة، عن طريقة المؤرِّخ الّذي "يُهمّش تاريخ المُستضعَفين، ويوغل في التّهميش إلى تُخوم التّزوير وإعدام الحقيقة"6 ، في حين أنّ الرّوائي يهدف إلى المزاوجة بين ما هو تاريخيّ وما هو متخيَّل بُغية تشييد معمار روائيّ نسقُه الأساس البُعد الجمالي، والسعي الحثيث لتلمُّس مواطن الخلل في التّاريخ السلطوي، ذلك الخلل الّذي أفرز واقعا عربيّا يُحرِّكُه الشّك في تفاصيل ما مضى ، والشك في ما هو آت.
التّاريخ في الرّواية الجزائريّة وفق وجهة نظر بعض كتّابها وبعض نقادها:
لا نزعم من خلال العنوان الّذي صدّرنا به المحطّة الثّانية من ورقتنا البحثيّة هذه، أنّنا سنذكر آراء كلّ كتاب الرّواية في الجزائر حول علاقة الرّواية بالتّاريخ، والأمر نفسه يقال عن آراء النقاد في هذا الموضوع، فقصارى ما سنقدِّمه هنا هو الإشارة الجزئيّة إلى آراء بعض الروائيّين ، وبعض النقاد .
يُعتبر الطاهر وطار من أبرز كتّاب الرّواية في الجزائر، كيف لا وقد شكَّل مع بن هدوقة الانطلاقة الأولى للرواية العربية الجزائرية المكتملة فنيّا، وقد صدر له ما يلي:7
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
اللاز 1972
الزلزال 1974
عرس بغل 1978
العشق والموت في الزمن الحراشي 1980
الحوات والقصر 1980
تجربة في العشق 1989
الشمعة والدهاليز 1995
الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي 1999
الولي الطاهر يرفع يديه بالدّعاء 2007
قصيد في التّذلل 2010

يعتقد الطاهر وطار أنّ الرّواية "تأريخ بشكل أو بآخر لأحداث حصلت، وتأريخ لأفراد، وتأريخ لشخص الكاتب مهما حاول أن يُبعِد ذاته"8 فذات المبدِع يستحيل أن تُغيّب خاصة عندما يتعلَّق الأمر بتاريخ تنتمي إليه، وبواقع تتأثر بكلّ ما يطرأ عليه، ويرسم وطار الفرق بين المؤرِّخ والرّوائي بالقول إنّ "الفرق بين المؤرّخ والرّوائي هو أنّ المؤرّخ يعتمد على المادّة الّتي يحصل عليها، قد يُضيف إليها وجهة نظره الخاصة، بينما الروائي يضيف إلى المادّة الروائية خيالات وتصوُّرات حتى وإن كانت واقعية"9 ، وعليه فإنّ الروائي باستطاعته اختيار إضافات بعينها، يُؤسّس من خلالها دعامة عمله التخييلي، بينما المؤرّخ مقيّد ولا مجال أمامه للإضافة باستثناء التعليق على بعض الأمور من وجهة نظره.
الأمر نفسه يذهب إليه الروائي جيلالي خلاص الّذي صدر له إلى الآن الروايات التالية:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
رائحة الكلب 1985
حمائم الشفق 1986
عواصف جزيرة الطيور 1998
زهور الأزمنة المتوحّشة 1998
الحب في المناطق المحرّمة 2000
قرة العين 2007
ويضيف خلاص قائلا "لم أكتب روايات تاريخية، ولكنني لا أنكر أنني كثيرا ما وظفت التّاريخ كذريعة في رواياتي، فأنا مولع بتاريخ بلادي المليء بالبطولات والخيبات أيضا"10، وهو الأمر الّذي نُلفيه لدى جلّ كتّاب الرّواية في الجزائر، مع اختلاف في الدّوافع والأهداف.
وفي نزعة متشائمة، تلُفّها بعض المنطقية يُصرّح مرزاق بقطاش، صاحب رواية (طيور في الظهيرة) وروايات أخرى هي:
عنوان الرواية تاريخ صدورها
طيور في الظهيرة 1976
البزاة 1981
عزوز الكابران 1989
دم الغزال 2002
يحدث ما لا يحدث 2004
خويا دحمان 2007
رقصة في الهواء الطلق 2009
قلت يُصرّح بخشيته أن يكون استحضار التّاريخ في الرّواية العربيّة بصفة عامّة، محض موضة زائلة11، ثمّ يُضيف في شيء من المنطقية قائلا:"أنا أومن بأنّ رواية الثورة الجزائريّة لم تولد بعد، على الرّغم من أنّها صارت جزءا من التّاريخ، ذلك أنّ الرّواية تنضج على نار هادئة"12، ويوافقه في هذا الروائي والناقد محمّد ساري، صاحب الرّوايات التّالية:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
على جبال الظهرة 1983
السعير 1986
البطاقة السحرية 1997
الورم 2003
الغيث 2007
ولكنّ محمّد ساري يُقدّم مبرّرا أكثر منطقية وإقناعا ممّا ذكره بقطاش، حول مسألة أنّ الرّواية الّتي تستحضر التّاريخ الوطني/الثورة التّحريريّة لمّا تظهر بعدُ لأنّها تحتاج وقتا أطول من الّذي يفصلنا عن تلك الثورة، ولكن السبب الأساس في اعتقاد محمد ساري يكمن في أنّ بعض قادة الثورة، لا يزالون على قيد الحياة، ويُتابعون كلّ ما يُقال عن الثورة وعن قادتها، "فكيف يُمكِن لكاتب أن يتعرّض لتناقضات قادة الثورة والتصفيات الجسديّة والمؤامرات دون أن يُثير سخط وغضب أباطرة هذه الثورة الأحياء، أو حراس إرثهم"13، ولعلّ النقاش الّذي تثيره في الوقت الراهن موضة إصدار مذكّرات الّذين عايشوا الثورة* خير دليل على أنّ الحقائق لم ولن تظهر بعد.
وإذا جئنا إلى واسيني الأعرج، صاحب السبق الكمّي على الأقل في الرّواية الجزائرية، لأنّه أصدر إلى الآن ما يكاد يساوي العشرين نصا روائيا:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
جغرافية الأجساد المحروقة 1979
وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر 1981
وقع الأحذية الخشنة 1982
نوار اللوز 1983
مصرع أحلام مريم الوديعة 1984
ما تبقى من سيرة لخضر حمروش 1985
ضمير الغائب 1989
فاجعة الليلة السابعة بعد الألف ج1..1990/ ج2..1993
سيّدة المقام 1991
ذاكرة الماء 1997
شرفات بحر الشمال 2001
مخطوطة شرقية 2003
طوق الياسمين 2004
كتاب الأمير 2006
كريماتوريوم..سوناتا لأشباح القدس 2007
أنثى السراب 2010
البيت الأندلسي 2010
جملكية آرابيا 2011
فإنّنا نُلفيه في البداية يتقاطع مع ما قاله محمّد ساري، عن استحالة كتابة التاريخ الوطني روائيا، كون بعض صُنّاعه لا يزالون على قيد الحياة، ولكنّ واسيني يتحدّث عن استحالة ذلك بالنسبة للمؤرّخ، فيقول إنّ هنالك حقائق"لا يقولها المؤرّخ، بسبب حسابات سياسية خارج تاريخية: سياسية، اجتماعية، إيديولوجية، حزبية ضيّقة، أو حتّى شخصية مباشرة، تمسّ بشرا ما يزالون على قيد الحياة"14 ، وإذا كان هذا حال المؤرّخ، فكيف تراه يكون حال الروائي، إن هو تعامل مع المعطيات التاريخية، دون إضفاء مسحة تخييلية، تنقل عمله من التسجيلية إلى التخييلية بوصفها نسغ الكتابة الرّوائية.
وفي معرض حديثه عن علاقته بالتاريخ الوطني في كتاباته الروائية، يُصرِّحُ واسيني الأعرج أنّه عندما فكّر في كتابة روايته (ما تبقى من سيرة لخضر حمروش) كان في رأسه سؤال يتعلّق باستعادة " التّاريخ الوطني الجزائري، وإعادة قراءته في زواياه الأكثر تخفّيا"15، ويُضيف أنّه كان "داخل سؤال مُقلق لا يُعَبِّرُ عنه إلّا قلق الرّواية: لماذا لم تُفض الثورة الوطنيّة على الرّغم من ضخامة التضحيات، إلى ما كان يُفترضُ أن تُفضي إليه"16، هذه الأسئلة وأخرى يشترك فيها –ربّما- جلّ كُتّاب الرّواية في الجزائر، الّذي تعاطوا مع التّاريخ الوطني، ممثلا في ثورة التحرير، منقسمين في ذلك إلى اتجاهين، اتجاه كتب أصحابه عن الثورة، لتمجيدها وتمجيد صُنّاعها، وإعادة بعث بطولاتهم، واتجاه كتب أصحابه عن الثورة بُغية إنارة الجوانب الّتي أغفلها المؤرّخ، وتناساها كُتّاب الاتجاه الأوّل، فالتاريخ الوطني "الّذي قال الكثير عن الغطرسة الاستعمارية...لم يقل شيئا عمّا كان يحدُث داخل الثورة، وكأنّ ما كان يحدُث داخلها، لا ينتمي إلى التّاريخ ولا إلى الثورة"17، وعليه فإنّ واسيني الأعرج يُصرُّ على فكرة أنّ التعاطي مع التّاريخ لا تعني بالضرورة إحاطته بهالة من قداسة، كما لا تعني معاداته كليّا، لأنّ التأمُّل والبحث عن التفاصيل وعدم التسرع في الحكم، أُمور في غاية الأهمية، ولها وزنها لحظة الحديث عن علاقة الرّواية بالتاريخ18.
نأتي الآن إلى رأي الروائي الحبيب السايح صاحب الأعمال الروائية المُبَيّنة في الجدول الآتي:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
زمن النمرود 1985
ذاك الحنين 1997
تماسخت-دم النسيان 2002
تلك المحبّة 2002
زهوة 2011
يعتقد السايح أنّ التّاريخ يمكن أن يُعتبرَ مادة الرّواية ورافدا مهمّا من روافدها، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ الرّواية فعل تخييلي بالأساس، وأنّه من غير الممكن الفصل في التّحليل بين المادة التّاريخية والمادة الروائية، مع التركيز على أنّ الكتابة الروائية هي "فعل التفاصيل وقول اللامقول، والدخول في عالم الخفايا"19 الّتي يتجاوزها المؤرّخ نزولا عند رغبة نُخب سلطوية معيّنة.
يتقاطع الروائي أمين الزاوي الذي أصدر الروايات التالية:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
صهيل الجسد 1983
السماء الثامنة 1994
ويجيء الموج امتداد 1998
وحشة اليمامة 2002
يصحو الحرير 2002
الرعشة 2005
شارع إبليس 2009
حادي التيوس 2011
مع الآراء الّتي ذكرناها إلى الآن، ولكنّه في محاولته تلمُّس الفرق بين نظرة كلّ من المؤرّخ والروائي للتّاريخ، فإذا كان المؤرّخ ينظر إلى التّاريخ على أنّه ماض وفقط –في اعتقاد الزاوي- فإنّ التّاريخ "بالنسبة للروائي ليس الماضي، بل هو المستقبل، الروائي يرى إلى الخلف كي يتقدّم ويتقدّم معه القارئ"20، وهو أمر لا يتّفق معه الروائي بشير مفتي ، الّذي يُعتبر من أبرز الروائيين الشباب، وقد صدر له:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
المراسيم والجنائز 1998
أرخبيل الذباب 2000
شاهد العتمة 2002
أشجار القيامة 2005
بخور السراب 2007
خرائط لشهوة الليل 2008
دمية النار 2010
حيث يقول إنّ:"الروايات العربية الّتي راهنت على التّاريخ...ظلّت أسيرة لخطاب تاريخي موجّه"21، مع احتمال أن يكون مفتي يقصد بكلامه روايات بعينها.
وكيما لا نظلم الصوت النسوي، الّذي فرض وجوده في عالم الرّواية الجزائرية محليا وعربيا، نُشير إلى رأي الروائية زهور ونيسي الّتي صدر لها إلى الآن:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
من يوميات مدرِّسة حرّة 1979
لونجا والغول 1993
جسر للبوح وآخر للحنين 2007
ترى زهور ونيسي أنّ المبدع "مُحلل من نوع آخر، غير مطلوب منه إبراز الحقائق كما هي دون زيادة أو نقصان"22، أي أنّه يمتلك هامش حريّة يُتيح له إعادة تركيب الواقعة التاريخية وفق ما يساعده في تشييد عمله الأدبي، وتُضيف الروائية فضيلة الفاروق صاحبة الروايات التالية:
عنوان الرّواية تاريخ صدورها
مزاج مراهقة 1999
تاء الخجل 2003
اكتشافات الشهوة 2005
أنّ تاريخ الثورة التحريرية "ثروة حقيقية لا يُقدّرُ الجزائريون ثمنها"23، لأنّها تُعتبر مَعينا ثريّا من شأن الاشتغال عليه روائيا أن يضيف ما لم يذكره المؤرّخ، فالرواية"تقول التّاريخ بالتفاصيل الصغيرة، تُحلّل وتشرح وتستنتج الأسباب"24، وهذا ما يُميّزُها عن فعل التأريخ المقيّد.
هذا عن آراء كُتّاب الرّواية حول مسألة العلاقة بين الرّواية والتّاريخ وحضور هذا الأخير في المُبْدَع الروائي الجزائري، فكيف نظر الناقد الجزائريّ المشتغل على الرّواية إل هذا؟
سنفتتح حديثنا عن الآراء النقدية بخصوص المسألة الّتي ذُكِرت آنفا، بطرح موقف الناقد مخلوف عامر صاحب الباع الطويل في الاشتغال على الإبداع القصصي في الجزائر، حيث صدر له إلى الآن في باب النقد ما يلي:
-تطلّعات إلى الغد (1983).
-تجارب قصيرة وقضايا كبيرة (1984).
-مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر (1998).
-الرّواية والتحوّلات في الجزائر (2000).
-متابعات في الثقافة والأدب (2002).
-توظيف التراث في الرّواية الجزائرية (2005).
-مراجعات في الأدب الجزائري (2009).
-الواقع والمشهد الأدبي..نهاية قرن وبداية قرن (2011).
-بالإضافة إلى عشرات المقالات في المجلات المحليّة والعربية.
يؤكّد مخلوف عامر أنّه من النادر "أن نطالع عملا أدبيا كُتب في الستينات والسبعينات، دون أن تحضر فيه حرب التحرير بصورة أو بأخرى"25، والحقّ أنّ هذا يصدُق على جلّ الروايات الجزائرية، حتى تلك الّتي صدرت في السنوات الأخيرة. وبحثا عن مبرر للحضور المكثّف الّذي مارسه التّاريخ/الذاكرة الوطنيّة في الرّواية يؤكّد الناقد أنّ الروائي الجزائري وجد نفسه "بين فكّي كماشة، صورة الماضي القريب، وصدمات الواقع المتحوّل، فكان يلتفت إلى الماضي ليستحضر حرب التحرير يُسائلها طورا، ويتلذّذ يذِكرِها أطوارا"26، ولعلّ القارئ يلاحظ أنّ الناقد قال عن الروائي إنّه يُسائل الثورة/التاريخ/الذاكرة طورا، ويتلذّذ بذكرها أطوارا عدّة، وفي هذا إشارة إلى أنّ الروايات الّتي تحاور التاريخ وتسائله بحِدّة قليلة، وهذا يذكّرنا بما قاله الروائي محمّد ساري حول استحالة ظهور روايات تكشف مستورا أباطرتُه أحياء، وحرّاس إرث من رحل منهم يُمارسون الرقابة باستمرار.
يُميّز مخلوف عامر لحظة اشتغاله على المتن الرّوائي الّذي استحضر التّاريخ، بين نوعين من الاستحضار، استحضار لا يتجاوز الوصف والتغني بمجد ما، ويُمثِّلُ لهذا بروايات كثيرة نذكر منها (البزاة) لمرزاق بقطاش، و(هموم الزمن الفلاقي) لمحمد مفلاح، وتُقابل هذا اللون من الاستحضار أعمال روائية تجاوزت ذلك التغني ولم تبقى "في حدود التعاطف والوصف، بل تجاوزت ذلك إلى النقد"27مثل روايات (اللاز) للطاهر وطار، و(التفكك) لرشيد بوجدرة، و(صهيل الجسد)لأمين الزاوي، و(ماتيقى من سيرة لخضر حمروش) لواسيني الأعرج... .
نُسجّلُ ونحن بصدد عرض آراء نقدية قارب أصحابها مسألة العلاقة بين التاريخ والرّواية الجزائرية، تقاطع دراسات نقدية عدّة حول فكرة أنّ الرّواية الجزائرية في استحضارها التاريخ الوطني ربطت بين عملية مساءلة التّاريخ الرسمي، ودور المثقف في ذلك، يقول عبد القادر رابحي مؤكّدا أنّ جلّ "النصوص الروائية الجزائرية تتّخذ من شخصية المثقف محورا تدور حوله مختلف الأحداث، فالمثقف هو المبشّر بالتغيير القادم في رواية السبعينات ، وهو المنتقد لواقعه والناقد للتاريخ والهوية في رواية الثمانينات، وهو المأزوم والمهزوم تحت وطأة الواقع في رواية التسعينات من القرن العشرين"28، خاصة في ظلّ ما عرفته كلّ تلك المراحل، من تحوّلات مجتمعية عميقة، أثّرت ولا تزال في مفصليات الكتابة الرّوائية الجزائرية الّتي سعت في نماذج كثيرة منها إلى "تقديم وعي الطبقة المثقفة بمسألة السلطة، وتصوُّرها للعلاقات الاجتماعية والثقافية القائمة في المجتمع، أو تلك الّتي ينبغي أن تقوم مستقبلا"29 ، على حدّ تعبير الناقد علال سنقوقة، صاحب الدّراسة المتميّزة (المتخيّل والسلطة..في علاقة الرّواية الجزائرية بالسلطة السياسية).
ونختم حديثنا عن آراء النقاد حول العلاقة بين الرّواية لجزائرية وذاكرة الوطن الّتي ترتسم غالبا في الثورة التحريرية، بالإشارة إلى أسئلة جوهرية يطرحها الناقد بشير بويجرة محمد في قوله: "ما هي شرعية المتون الرّوائية في الجزائر؟ هل هي بنت الحادثة التّاريخية كما وقعت فعلا؟ وذلك قول ما زال يُردّده كثير من المتعاملين مع تلك المتون، أم هي بنت المخيال والمخيالية الجزائرية؟ أم هي بنت لكليهما؟"30، وهي أسئلة حرّكت النقد الروائي الجزائري، وستُحرّكه مستقبلا، فالعودة إلى الذاكرة الوطنية في الرّواية مَعين غير "مُرشّح للنضوب، لغياب المؤشرات الدّالة على ذلك"31، حيث لا يزال الحوار القائم بين كتاباتنا الروائية وتاريخنا الوطني مستمرا إلى الآن.



التاريخ في النماذج الروائيّة عيّنة الدّراسة:
-العيّنة التطبيقيّة..مبرّرات الاختيار:
تروم هذه المداخلة الإشارة إلى الوشائج الموجودة بين التاريخ ونماذج من الرّواية الجزائرية، وقد اتخذت المدونات الرّوائية التالية عيّنة تطبيقية:
1-اللاز (1972) للطاهر وطار.
2-ذاكرة الجسد (1993) لأحلام مستغانمي.
3-مذنبون..لون دمهم في كفي (2008) للحبيب السايح.
4-شارع إبليس (2009) لأمين الزاوي.
فما تراها الدوافع الّتي أدّت بنا إلى اختيار هذه الروايات دون غيرها؟
أولا لا ينبغي أن يعتقد القارئ أنّ اختيار تلك الأعمال تمّ لأنّها الوحيدة الّتي تتقاطع مع التّاريخ/الذاكرة الوطنية، فذلك يصدُق على جلّ ما صدر من روايات جزائرية إلى يومنا هذا. لقد اخترنا الاشتغال على هذه الروايات المتباعدة زمنيا في تاريخ الصدور، لنؤكّد استمرار حضور التاريخي في الرّوائي .
لقد وظّف الطاهر وطار الثورة أو استحضرها في باكورته (اللاز)، بعد حوالي عشرة سنوات من الاستقلال، وكذلك فعلت أحلام مستغانمي في (ذاكرة الجسد) بعد ثلاثة عقود من حصول الجزائر على استقلالها، وبعد (ذاكرة الجسد) بأكثر من عشر سنوات ، استحضر الحبيب السايح التّاريخ في نصه (مذنبون)، وفي الفترة ذاتها تقريبا يفعل أمين الزاوي الأمر ذاته في روايته (شارع إبليس)، وكمثل صنيع هؤلاء، فعل، وسيفعل آخرون ما دام التاريخ الوطني الصحيح إلى حدّ بعيد، مغيّبا في دهاليز التاريخ الرسمي، الطافح بالانتصارية والمتّشح بالقداسة.
كما نُشير إلى أننا اخترنا هذه الروايات لأنّها تُصنّف ضمن الاتجاه الّذي يستحضر التّاريخ/الذاكرة لنقده، ومحاولة إعادة صياغة بعض جوانبه، لا تمجيده على شاكلة ما قام به بعض كُتّاب الرّواية خاصة في مرحلة البدايات.
-الحكاية المحورية في العيّنة التطبيقيّة:**
1-اللاز ..نقد التاريخ:
تلك هي الرّواية، فن التّفاصيل الصغيرة، إغفاءة واحدة، شُرود واحد كان كافيا لسرد تاريخ ثورة كاملة،تنفتح رواية (اللاز) على طابور يقف فيه أفراد من عوائل الشهداء ومن بينهم الشيخ (الربيعي)، الّذي يحمل نصف شهيد في جيبه، وعندما يحين دوره يُسلّم البطاقة/نصف الشهيد ليستلم المنحة/النصف الثّاني من شهيد ضحى من أجل الوطن، في وقفته تلك الّتي طالت أسند الشيخ (الربيعي) ظهره إلى الجدار "ليطلق العنان لمخيّلته، يتحسّس الجراح...شيء عشناه، وشيء سمعناه، وشيء نتخيّله"32، تلك هي الإغفاءة، ذلك هو الشرود الّذي سيكسره الموظف من خلف الشبّاك، عندما يطلب من الشيخ بطاقة الاستفادة.
في شروده ذاك يتكلّم الشيخ الربيعي عن الأمس، يتحدّث عن (اللاز) الفتى اللقيط الّذي يستغل علاقة مشبوهة جمعت بينه وبين ضابط فرنسي، ليُهرّب المجاهدين من المعتقل إلى الجبال، (اللاز) الّذي التقى مرة (زيدان) والده، المثقف الأحمر الوفي للثورة والمبادئ والوطن. غير أنّ أمر اللاز اكتشف بسبب (بعطوش) الخائن، الّذي تحوّل في لحظات إلى بطل ، قتل حلم الأمس وصادر الغد بكلّ من فيه وما فيه.
تُصوّر الرّواية اللقاء الّذي تمّ بين اللاز وزيدان، عندما استدعت القيادة/الجبهة هذا الأخير، لأمرر جلل فحواه عزمها حلّ كلّ التشكيلات السياسية بُغية توحيد الجهود، فتطلب من زيدان المثقف الشيوعي على لسان الشيخ (سي مسعود) أن يتنازل عن مبادئه، ولكنّه رفض ففقد رأسه بمعية زملائه الأجانب على يد ثورة ناصرها فأهدته موته مطرزا بفجيعة ولده الّذي ودّع عقله لحظتها، وراح يجوب شوارع الجزائر المستقلة وهو يصيح (ما يبقى في الواد غير حجاروا)... .
2-ذاكرة الجسد..ذاكرة الوطن:
من لحظات الفجيعة تنبثق رواية أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد)، الّتي تنطلق من حزن حاضرنا باتجاه حزن ماضينا، حيث تصوّر لنا (خالد بن طوبال) الرجل الّذي يحمل بيد واحدة الوطن المضرّج بدماء ذاكرة موبوءة، رجل يختزل الوطن في مدينة والمدينة في جسر، خالد الّذي يُخبرنا أنّه يعيش في فرنسا الّتي كانت بالأمس القريب مُستعمِرا عاث فسادا في الجزائر.
يحدُث التحوُّل عندما يلتقي (خالد) الشابة (حياة عبد المولى)، هذه الفتاة الّتي أعادته إلى الوراء، أيام كان في تونس يعالج إصابة أفقدته ذراعه، فيتذكّر كيف أوصاه والد حياة بحمل رسالة إلى عائلته في تونس، شريط الذكريات ذاك يُمكّن خالد بن طوبال من عرض تاريخ الجزائر انطلاقا من أيام الثورة التحريرية مرورا بسنوات اقتسام الغنائم وصولا إلى انكسارات عشرية الدم، وتصوّر الرّواية كيف حاد بعض قادتها عن مبادئ نوفمبر فعاثوا في البلاد فسادا ودفعوا بها إلى الهاوية.
3-مذنبون..لون دمهم في كفي..حَكِّمُوا التّاريخ:
لا تنهض رواية (مذنبون) للحبيب السايح على الاستحضار المباشر للتاريخ/الثورة، بل تُقدّم في متنها الأساس موقف شريحة من الجزائريين اتجاه قضايا الراهن، (مذنبون) رواية تتحدّث عن المحنة الّتي عاشتها الجزائر إبان العشرية الأخيرة من القرن الماضي، أو بالأحرى تُعالج ما أفرزته، حيث يُقدّم لنا السارد حكاية تتضمن حكاية رشيد الشاب المثقف الّذي أنهى دراسته الجامعية والتحق بصفوف الجيش الوطني الشعبي لأداء الخدمة الوطنية، لكن وفي أثناء ذلك تقوم مجموعة إرهابية باغتيال أفراد عائلته (والده، ووالدته، وأخته مبروكة) والوحيدة الّتي نجت من المجزرة أخته الصغرى نجاة.
تُصوّر لنا الرّواية عزم رشيد الانتقام من الفاعلين، خاصة وأنّه يعرِف أمير الجماعة الإرهابية (لحول ولد فلة)، ولكنّ رشيد فوجئ بإصدار السلطات عفوا عن الإرهابيين الّذين يُسلّمون أسلحتهم، حيث رفض ذلك وقرّر تحقيق العدالة بنفسه، فقتل (لحول) ليلة عودته من الجبل، ونكّل بجثته، وفي أثناء تقديم هذه الحكاية ، تُقيم الرّواية حوارا مع التّاريخ، إلى درجة أنّها تكاد تُطالبُ بتحكيم التّاريخ قبل العفو عن الإرهابيين الّذين أذنبوا والدليل على ذلك دم بريء يخضب كفّ الوطن، فمن خان الوطن بالأمس (جدّ لحول) الحركي، خان الوطن اليوم أيضا (لحول الإرهابي)، ومن دافع عن الأرض والعرض بالأمس (جدّ رشيد) الشهيد، يُدافع اليوم عن كرامة الوطن (رشيد)، تكاد الرّواية تقول –في اعتقادنا- : حكّموا التّاريخ.
4-شارع إبليس..خفايا الأمس:
يرسم الزاوي أمين في هذه الرّواية حكاية (عبد الله بن كرامة) أو (إسحاق) أو (جرو الجبل)، الشاهد على الخيانة، والمطلّع على خفايا الأمس وخيبات اليوم، جرو الجبل الّذي رافق والدته الجميلة، عندما قرّرت الالتحاق بزوجها في جبل من جبال الغرب الجزائري، ومساعدته في وقوفه مع الثورة، ودعم وفائه لها.
يُطلعنا إسحاق الّذي اختفى في نهاية الرّواية، على خيباته الّتي لا لون لها، فيحدّثنا عن نظرات ممثّل الجبهة الجائعة إلى والدته، نظرات دفعته إلى تدبير مكيدة لإبعاد والده ثمّ لاغتياله والاستحواذ على زوجته (أم إسحاق)، الّتي شاركت في حبك سيناريو إبعاد زوجها، وبعد سنوات تنجح الثورة، ويتحقّق الاستقلال ، فينتقل إسحاق (جرو الجبل) إلى وهران للعيش مع أمّه وزوجها القائد، وتستمر الحكاية فتبيّن لنا نقمة إسحاق على والدته وسعيه للانتقام منها ومن القائد، وقد تمّ له ذلك عندما تزوّج القائد (زبيدة) الشابة، الّتي اختلى بها إسحاق مرات عدّة بمباركة خفية من والدته.
وبعد فترة يسافر إسحاق إلى دمشق لإتمام دراسته، وليُكمل لنا حلقات خيباته، انطلاقا من لقائه بجزائريات يمارسن تجارة الجسد في دمشق، وهن بنات ثورة المليون ونصف المليون شهيد، ولكنّ خيبته الكبرى هناك كانت لحظة عَلِم أن الجزائري المدعو (المانو) وهو أحد أبطال ثورة التحرير، والّذي أُشيع عنه أنّه انتقل من الجزائر إلى المشرق لنصرة فلسطين، يُتاجر في بيع الأعضاء البشرية، ثمّ تكتمل الخيبة عندما يرسم لنا أنّ القائد (الخائن بالأمس) صار ملتحيا، يدعو إلى الثورة على نظام كان من ركائزه.
-دلالة الارتداد وهاجس العودة إلى الماضي:
يستنتج قارئ الروايات الّتي نشتغل عليها، بيُسر دلالة الارتداد وهاجس العودة إلى الماضي، ذلك أنّ تلك الروايات، يربط السارد في كلّ منها بين الرّاهن والماضي، الّذي تحصرُه هذه الروايات في مرحلة الثورة التحريرية.
وعليه باستطاعتنا القول إنّ روايات (اللاز) و(ذاكرة الجسد) و(مذنبون) و(شارع إبليس)، لا ينبثق فعل السرد فيها من الماضي في حدّ ذاته، فكلّها تنطلق من لحظة راهنة وتتجه صوب التّاريخ، ففي رواية (اللاز) يقودنا السارد ومنذ الفقرات الأولى إلى الماضي، على لسان الشيخ الربيعي، في وقفته تلك أمام شبّاك صرف منح الشهداء، وكأنّ وطار يستعجل مغادرة الحاضر، الّذي ليس سوى نتيجة لما حدث سالفا.
واستنادا إلى ذلك نستطيع القول إنّ وطار يروم "نقد مسار الثورة النضالي، وإدانته بالكشف عمّا ارتكبته الثورة من أخطاء"33 هذا الكشف الّذي لن يتمّ إلاّ بالعودة إليها والكشف عن تفاصيلها.
الأمر نفسه يلاحظه قارئ (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي، الّتي يُشكّل الارتداد عمودها الفقري، إذ تُعدُّ سفرا في الذاكرة، وحَفرا في عمرٍ يتنفس صاحبه مزيجا من التناقضات، الّتي يُغذّيها تاريخ نضالي، وراهن تَلُفه الخيبات والانكسارات34، انكسارات دفعت الحبيب السايح في روايته (مذنبون) إلى استدعاء الذاكرة بُغية تحكيمها في ما آل إليه الحاضر، خاصة غداة إعلان السلطة العفو عن فئة سارت بالجزائر إلى الهاوية.
أمّا رواية (شارع إبليس) لأمين الزاوي، فتتأسس على عمليّة السرد، الّتي أعلنت (زبيدة) أنّها ستقوم بها، ولكنها سرعان ما تتخلى عنها لإسحاق الذي يفتتحها، بخيبة خيانة الثورة لوالده، ويختمها بخيبة أمل التاريخ والوطن في (المانو) أحد قادة الثورة، بالإضافة إلى تحوّل القائد الّذي خان بالأمس، ويخون اليوم كيف لا وهو يدعو الشباب إلى ثورة أخرى، وهكذا تُصبح الأذية الّتي لحقت الوطن بسببه مزدوجة، حيث تنكّر للوطن والحقيقة بالأمس، عندما اغتال والد إسحاق غدرا، ويدفع الشباب المتحمّس لاغتيال الوطن اليوم، تُقدّم الرّواية كلّ ذلك عن طريق سلسلة من الارتدادات تمكّن إسحاق من رسم صورة الحاضر استنادا إلى الماضي.
-المسكوت عنه ودور المثقف في كشف الحقائق:
أشرنا سابقا وفي أكثر من موضع إلى طبيعة الفضاء الّذي تسبح فيه الرّواية، في علاقتها مع التّاريخ، وكيف أنّها تستغلّ كونها جنسا أدبيا يحوز حريته الخاصة في التعبير، فتقتحم عوالم التّاريخ وتفضح ما غيّبه، أو تناساه، أو لم يمنحه حقّه، والحقّ أنّ قراءة المتن الروائي الّذي اتخذناه عيّنة تطبيقية، يكشِف اختلاف المادة التاريخية المعبّر عنها روائيا عن التاريخ الرسمي، الّذي لم يُخبرنا إلى الآن –في صياغته الرسمية- بحدوث خيانات ما في مسارات الثورة التحريرية، ولم يُحدّثنا حتى عن الأزمات والصراعات الّتي نشبت بين القادة في مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة، وهي أمور تطالعها الأجيال الجديدة بنوع من الفضول، والاستغراب والذهول.
ومن الملاحظات المهمّة الّتي سجلناها أثناء حوارنا مع المدوّنات الروائية عيّنة الدّراسة، الحضور المميّز لشخصيّة المثقف، ذلك أنّ الروائي يتّخذ " من حالات المثقف البطل، وهو يعبر الأزمنة المعاصرة للدولة الوطنيّة المفجوعة بصدامية الحادثة التاريخية، وتشنّجاتها، مركبة عبور دائمة يتلبّسُ فيها الأقنعة المناسبة لهذه المراحل"35 ، فشخصية (زيدان) المثقف الشيوعي الّذي قُتل في رواية (اللاز)، دليل إدانة يكشف ما تخلّل الثورة، الّتي اغتالت مثقفا خدمها، فخدمت بقتله فرنسا الاستعمارية، ورفعت في المقابل الخائن (بعطوش)، والملاحظة ذاتها نسحبها على (خالد بن طوبال) المثقف الّذي فضّل المنفى الاختياري، على خيانة تاريخه النضالي، كذلك الأمر بالنسبة (لرشيد) الّذي أخذ حقّه بيده، لأنّ التّاريخ صفح دون وجه حق عن (لحول) الإرهابي حفيد الحركي الّذي خان الوطن بالأمس، أمّا (إسحاق) بطل رواية (شارع إبليس) لأمين الزاوي، فاختار الاختفاء مادام التّاريخ مصرا على ملاحقته بصور الخيانة، الّتي تتكرر وفق صياغات تبدو مختلفة ولكنّها واحدة.
ولا ضير في الأخير من الإشارة إلى أننا في هذه المداخلة، لم نمنح الموضوع حقّه من الرصد والمتابعة، فعسى أن نكون وُفقنا في جزء منه على الأقل.
-إحالات ومراجع البحث:
1-ينظر: جورج لوكاش،الرّواية التّاريخية، ترجمة:صالح جواد كاظم، دار الطليعة-بيروت، دط،1978، ص 89.
2-فيصل درّاج، الرّواية وتأويل التّاريخ، المركز الثقافي العربي، ط1، 2004، ص369.
3-المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
4-نضال الشمالي، الرّواية والتّاريخ (بحث في مستويات الخطاب في الرّواية التاريخية العربية)، عالم الكتب الحديث، وجدارا للكتاب العالمي-الأردن، ط1، 2006، ص134.
5-المرجع نفسه، ص 108.
6-فيصل درّاج، الرّواية وتأويل التّاريخ، ص6، ويراجع أيضا: نضال الشمالي، الرّواية والتّاريخ، ص137، ونبيل سليمان، الرّواية العربية رسوم وقراءات، مركز الحضارة العربية، دط، ص59.
7-اعتمدنا في ترتيب النصوص الروائية لكل كاتب على:
-بوشوشة بن جمعة، سردية التجريب وحداثة السردية في الرّواية العربية الجزائرية، المغاربية للطباعة والنشر والإشهار-تونس، ط1، 2005، ص ص 285/291.
-المختار بوعناني، بيبليوغرافيا الرّواية في الجزائر، مجلّة دراسات جزائرية، جامعة وهران، العدد 02، مارس2005، ص ص 196 /204.
-بالإضافة ما يملكه الباحث من نصوص روائية، خاصة تلك الّتي صدرت مابين 1990 و2010، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى احتمال وجود خلط ما في ترتيب الأعمال أو في تاريخ صدورها، وهو أمر لمسه الباحث في الدراسات البيبليوغرافية الّتي اعتمدها.
8-زينب قبي، الرّواية والتّاريخ (آراء روائيين جزائريين في الموضوع)، مجلّة الثقافة، منشورات وزارة الثقافة، العدد: 09 يناير2007، ص 148.
9-المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
10-م ن، ص 152.
11-ينظر: م ن، ص 153.
12- ن، ص ن.
13-جريدة الخبر (اليومية)، العدد:6522، السنة 21، عدد يوم 31/10/2011.
*- نذكر هنا مثلا: -مذكرات العقيد الطاهر الزبيري (نصف قرن من الكفاح)، دار الشروق للإعلام والنشر، ط1، 2011. و-الحوار مع أجري مع الشريف مهدي (أوّل أمين عام لرئاسة الأركان)، نشر مسلسلا في جريدة الخبر، مابين 17 و 22 جانفي 2012.
14-واسيني الأعرج، الرّواية التاريخية أوهام الحقيقة، مجلّة الثقافة، وزارة الثقافة-الجزائر، العدد:19،2009، ص18.
15-المرجع نفسه،ص 19.
16-نفسه، ص 20.
17-ن، ص 21.
18-ينظر: نفسه، ص17 و ص 21.
19-زينب قبي، الرّواية والتّاريخ، ص 148.
20-نفسه، ص 152.
21-ن، ص 150.
22- ن، ص 151.
23- ن، ص 149.
24-ن، الصفحة نفسها.
25-مخلوف عامر، توظيف التّراث في الرّواية الجزائرية، منشورات دار الأديب، ط1، 2005، ص 09.
26-المصدر نفسه، ص 26. ويراجع كتابه: الرّواية والتحوّلات في الجزائر، منشورات إتحاد الكتّاب العرب-دمشق، د ط، 2000، ص 12.
27-مخلوف عامر، الرّواية والتحوّلات، ص12.
28-عبد القادر رابحي، إيديولوجية الرّواية والكسر التاريخي (مقاربة سجالية للروائي متقنّعا ببطله)، أعمال الملتقى الخامس للنقد الأدبي في الجزائر (الأدبي والإيديولوجي في رواية التسعينيات)، المركز الجامعي بسعيدة، 15/16 أفريل 2008، منشورات دار الأديب ، 2008، ص 49.
29-علال سنقوقة، المتخيّل والسلطة (في علاقة الرّواية الجزائرية بالسلطة السياسية)، منشورات الاختلاف، ط1، 2000، ص 13.
30-بشير بويجرة محمد، المتن الروائي المخيال والمرجعية، مجلّة دراسات جزائرية (مذكور)، ص152.
31-بوشوشة بن جمعة، اتجاهات الرّواية في المغرب العربي، المغاربية للطباعة والنشر والإشهار-تونس، ط1، 1999، ص 83.
**- نشتغل في هذه الورقة البحثية على الرّوايات التالية:
-الطاهر وطار، اللاز، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط3، 1981.
-أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد، منشورات anep، ط18، 2004.
-الحبيب السايح، مذنبون..لون دمهم في كفي، دار الحكمة، ط1، 2008.
-أمين الزاوي، شارع إبليس، منشورات الاختلاف، ط1، 2009.
32-الطاهر وطار، اللاز، ص 10.
33-بوشوشة بن جمعة، سردية التجريب وحداثة السردية في الرواية العربية الجزائرية، ص 121، وينظر كتابه: التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، المغاربية للطباعة والنشر والإشهار، ط1، 2003، ص 115.
34-ينظر:هند سعدوني،الخطاب الروائي النسوي بين(أنا) الكاتبة و(هو) البطل، ضمن كتاب الكتابة النسوية التلقي والخطاب والتمثّلات، (مجموعة من المؤلّفين)، منشورات المركز الوطني للبحث في الانثروبولوجية الاجتماعية والثقافية-وهران، دط، 2010، ص 187.
35-عبد القادر رابحي، إيديولوجية الرّواية والكسر التاريخي، ص 49.







0 التعليقات:

إرسال تعليق