وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما
الأربعاء، 4 يناير 2012

رحلة العلماء في طلب العلم





 ** المقدمــة **
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يُضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون  (. "آل عمران" الآية (102).
)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً(."النساء" الآية (1).
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطِع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً(. الأحزاب الآية (70-71) .
أما بعد :
فإن خير الكلام كلام الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد e ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
إن للعلم والعلماء مكانة عظيمة، حيث امتدح الله سبحانه وتعالى العلماء، فقال عزوجل : ]شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[. آل عمران : (18) .


فلقد دلت هذه الآية على :
الأول : فضل العلم والعلماء ، دون غيرهم من البشر .
الثاني : اقتران شهادة العلماء بشهادة الله عزوجل والملائكة .
الثالث : تزكيتهم وتعديلهم من الله سبحانه وتعالى .
وقرن الله سبحانه وتعالى العلم مع التوحيد ، بل وقدمه على كلمة التوحيد قبل النطق بها ، ويكون قبل القول والعمل ، فقال الله تعالى : ]فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [ (محمد:19) .
وبوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب ، فقال :
باب العلم قبل القول والعمل ، لقول الله تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله " ، فبدأ بالعلم . صحيح البخاري (1/37) رقم (67) .
قال ابن المنير رحمه الله تعالى في تعليقه على هذا الحديث : أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل ، فلا يعتبران إلا به ، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنيّة المصححة للعمل ، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم : "أن العلم لا ينفع إلا بالعمل" تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه . اهـ . فتح الباري (1/216). وعن بقية بن الوليد ، عن معاذ بن رفاعة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله  e : "يحمل هذا العلم من كل خلف   عدوله  ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين" .
أخرجه البيهقي في الكبرى برقم (20700) ، والتمهيد (1/59) . السلسلة الصحيحة رقم (1/485) ، والمشكاة رقم (248) ، والسنة (837،838) .
قال المناوي رحمه الله تعالى : هذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه ، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر خلقا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف ، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر ، وهذا من أعلام نبوته ، ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرف شيئا من العلم لأن الحديث ، إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئا ، وفيه فضل العلماء على الناس ، وفضل الفقه على جميع العلوم ، وفيه أن هذه الأمة آخر الأمم ، وأنه لا بد أن يبقى منها من يقوم بأوامر الله حتى يأتي أمر الله اهـ . فيض القدير (6/396) .
فنظراً لأهمية هذا الموضوع ، والذي عليه مدار الأمور كلها ، ألا وهو العلم ، فبالعلم يوحد الله تعالى ، وبالعلم يعبد الله تعالى ،  ، وبالعلم تحارب البدع ، وفي العلم حياة القلوب ، وتزكية النفوس ، وصلاحها . قال أحد الحكماء : يابني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله يُحييّ القلوب الميتة بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء . وبالعلم تعرف السنة ويكون فيها اتباع للنبي e ، وهي من أعظم الأعمال إلى الله تعالى ، قال القاسم بن سلاّم أبو عبيد : المتبع للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عزوجل .
قال الألباني رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الكلام : "قلت : هذا في زمانه فماذا يقال في زماننا" . اهـ . كتاب الإيمان لأبي عبيد (ص50) بتحقيق الألباني .

فالعلم هو السبيل للنجاة ، وفيه رفع للدرجات ، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم .

فعلى المسلم أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهه في الدين ، ويسأله سبحانه أن ييسر له طلب العلم .

قال الله سبحانه وتعالى : )وقل ربِّ زدني علماً( .سورة طه(114).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في تعليقه على هذه الآية : "واضح الدلالة في فضل العلم ، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه  e بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم ، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته ، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنـزيهه عن النقائص ، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه" . اهـ . فتح الباري (1/141).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول يا معلم إبراهيم فهمني ويذكر قصة معاذ بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته، وقال: إني لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك ولكن أبكي على العلم والإيمان الذين كنت أتعلمهما منك ، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فاطلب العلم عند أربعة فإن أعياك العلم عند هؤلاء فليس هو في الأرض فاطلبه من معلم إبراهيم.العقود الدرية (1/42) .
وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال ألم تسمع إلى قوله حين بدأ به فقال :  "فاعلم  أنه لا إله إلا الله" ، ثم أمره بالعمل فقال واستغفر لذنبك ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، لا يغفر  إلا  بها من قالها غفر له . اهـ . حلية الأولياء (7/285) . 
وفي الحديث الصحيح أن الرسول e قال : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" .
أخرجه البخاري ـ كتاب العلم ـ باب العلم قبل القول والعمل (1/26) .
وعن صفوان بن عسال المرادي ، قال سمعت رسول الله e يقول : "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع" .
أخرجه ابن ماجة في "المقدمة" ـ باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ـ حديث رقم ( 226) ، وقال في الزوائد : "رجال إسناده ثقات" . 
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، وقال من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ، وقال ما تقرب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفصل من طلب العلم . اهـ . تهذيب الأسماء واللغات للنووي رحمه الله تعالى (1/74) .
وقد كانت الرحلة في طلب الحديث من مؤهلات المحدثين ولوازم طريقتهم ومنهجهم في تحصيل الأحاديث وجمع طرقها وأسانيدها ، روى الحاكم بسنده عن يحيى بن معين أنه قال :" أربعة لا تؤنس منهم رشداً : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
انظر : معرفة الحديث ـ الحاكم (ص9) .
وسأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه : هل ترى لطالب العلم أن يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه ، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع فيها ؟ قال : يرحل ويكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة يشام([1]) الناس يسمع منهم .
وقيل لأحمد أيضاً : أيرحل الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديداً . لقد كان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ، فيسمعا منه .
انظر فتح المغيب : (2/314) .
قال السخاوي: وهذا على وجه الاستحباب، وهو متأكد إذا علمت أن ثم من المروي ما ليس ببلدك مطلقاً أو مقيداً بالعلو ونحوه ،  بل قد يجب إذا كان في واجب الأحكام وشرائع الإسلام، ولم يتم التوصل إليه إلا به ، فالوسائل تابعة للمقاصد . المرجع السابق . اهـ. كتاب مدرسة الحديث في البصرة للدكتور أمين القضاة (ص414) .
وبناء على هذا أحببت أن أجعل بحثاً خاصاً في هذا الموضوع لأهميته وحاجة المسلمين لذلك في عبادتهم وفي حياتهم اليومية ، وترغيباً لهم بطلب العلم ، واهتمامهم بذلك ليكون لهم سلاحاً يحاربون به الشبهات ، ولينالوا عند الله الأجر والثواب يوم القيامة بإذن الله تعالى ، وليكون زاداً يتزودون به في دنياهم وأخراهم .
هذا ولا يفوتني أن أشكر كل من قدم لي يد المساعدة على إخراج هذا الكتاب ، وقد استعنت بكتب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بتخريج الأحاديث ، إضافة إلى كتب العلماء في هذا الشأن ، فجزاهم الله عنا خير الجزاء .
أسال الله الكريم رب العرش العظيم أن يجزل لهم المثوبة ، وأن يجعله في ميزان حسناتهم ، وأسأله سبحانه أن يثيبنا عليه ، وأن يجعله لنا ذخراً في يوم الدين ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به المسلمين عامة ، وطلبة العلم خاصة ، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا ، وأن ينشر له القبول في الأرض ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . آمين .   
والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .                                         

 

                                                  وكتب/ماجد إسلام البنكاني

                                                أبو أنس العراقي

19/رمضان/1423هـ
                                                     24/11/2002م


[1] )) يُقال:  شامَمْتُ  فُلاناً إذا قارَبْتَهُ وتَعَرَّفْتَ ما عِندهُ بالاخْتِبارِ والكشف، وهي مُفاعَلة من الشَّمِّ كأَنك تَشُمُّ ما عنده وَ يُشُمُّ ما عِنْدك لتَعْمَلا بمقتَضى ذلك؛ ومنه قولهم: شامَـمْناهُمْ ثم ناوَشناهُمْ. و شامَـمْتُ  الرجل إِذا قاربته ودنوت منه.و الشَّمَـمُ : القُرْبُ .اهـ. لسان العرب(12/326).

0 التعليقات:

إرسال تعليق